نَفَرَ “طائر العشا” بخفّة، وحط على غصن الأبد!

12 أكتوبر، 2023 | تأبين | 0 تعليقات

محمد ثابت

ليست مرة، ولا ألف، أقول لنفسي لن أفتح هذا الجوال البغيض، ولا رسائله وأخباره، فور استيقاظي. أفعل حيناً، ولا أصمد أحيان، عندما أكون بانتظار شيءٍ ما، ثم ليست مرة، ولا مرات، التي يكون أول ما تقع عيناي عليه، هو إشعار طاف على الشاشة، بوفاة واحد من الأعزين!
قمت هذا الخميس الفائت، ٣١ أوغست، على موتٍ خاطف، “محمد على علوان.. في ذمة الله”، ولم أصدق! فتحت صفحات المواقع.. الجميع ينعيه، واعتبرتها إشاعة، فقد كنا على الهاتف، منذ ليالٍ قريبة، والرجل مزهر بالسعادة، وخطة الحياة في صوته، ويحكي عن بهجة سفر، للتو عاد منه، وراح الضحك لبعض أمثالنا الشعبية، في عسير، وقال إنه جمع منها أكثر من الست مائة، ويعمل عليها، ثم قال إن روايته الجديدة “موز ريدة”، و”كتاب تهلل” على وشك الصدور! أتذكر مكالمته هذه، وأفكر: لا بدّ أن هناك خطأ ما! لكن أخيراً.. وجدت عائلته تعلن عن رحيله، عبر حسابه الشخصي، في منصة تويتر/إكس. لقد ذهب “أبو غسان” إذاً!
وماذا يقال! سأرفع مجدداً فكرتي عنه، فربما تصلح أن تكون صلاةً عليه، وقد اختار للمرة الأخيرة، بنفس طريقته المعتادة، طيلة حياته، وهو يغادر؛ المضيّ بخفة مفاجئة..
“أبو غسان”، محمد علي علوان.. كان كلما التقيته فإنه يعبر في نفسك، كالنسمة الطيبة، يوقد حسّك بذاكرات النشائد في القرية، وصرير الأسرار، في المدينة، تقرؤهما ليس في كلماته فحسب، بل في شخصه الرقيق أيضاً، يمكنه بعبارات عذبة ووجيزة أن يملأ المسافة، ما بين أبعد شيئين، فيولّفهما ويمنحهما الهالة والجاذبية! هات شجرة غافية، بأحد الوديان، وهات مدينةً مزحومة بضجيج الأبواق والخرسانة، ثم ضع محمد علوان بينهما، وستكونان في انسجامهما السويّ، في صفو الكتابة، وسهولة الكلمات العابرة، إلى القلب، وفي الشخص والإنسان، هنا وهناك، في الروح الواسعة، والنفس السمحة، كأن مهمته أن يذكرنا بما بقي، فينا ومنا، من نقاء الكائن الأول، وضحكة وغضبة!
أصدر محمد علي علوان، عدة مجموعات قصصية، وهو أكبر رواد حداثتها، منذ السبعينات، مثل “الخبز والصمت”، “الحكاية تبدأ هكذا”، “دامسة”، “هاتف”، “طائر العشا”، و “يوميات مرتزق”، وكان قد قال لي، مؤخراً، أنه أودع لدى الناشرين “كتاب تهلل”، ورواية “موز ريدة”، ولا أدري لو كان قد فرح بأي منهما، قبل مباغتة الأجل!
وإليكم قصة فاتنة، تجدونها في واحدة من أحلى مجموعاته (هاتِف)، التي صدرت عن نادي أبها الأدبي، ويا للفنان، الذي يذهب بك للأغوار، بأقل حمولة، بأقل التواءٍ ممكن، ثم بسحريات غير متوقعة يقذف بك في المفاجأة والدهشة! في قصة “دَرَج”، من مجموعة “هاتف”.. كتب أبو غسان: 
“وسط مدينة الرياض، شارع الخزان، هُدم بيتٌ طيني. الجدران، النوافذ، الأسوار، والغرف.. ذهبت جميعاً. الدرج الذي يبدأ من الطابق الأول، إلى الثالث، ظل متماسكاً، لكنه يُفضي إلى المجهول!”. 
هل عبرتكم هالة الفنّ! قصة مثل هذه، من سطرين ونصف، يمكنها أن تحبسك طويلاً، وأنت تتخيل، خلف كلماتها المضغوطة والماهرة، وجوهاً وثقافات، أفهاماً، زمناً، وآلاماً، انتهت إلى الهدم والخراب، تاركة طريقها وعلامتها، في جوفه، لا غير، وهكذا ستأخذك حسرة الدرج الصامد، وقد تغير دوره العائلي، وصار يفضي إلى المجهول!
أبو غسان.. أحد الذي يعلمونك جيداً أن الإيمان والشغف ينجبان بعضهما، وفي الوقت نفسه يكبران معاً، وأن الضمور في أحدهما، ضمورٌ في الآخر، فبقدر ما تؤمن به، بقدر ما يلسع الشغف قلبك، وينسرب في وجهك، ويظهر في لسانك، وتراه حتى في مناماك! هذا هو الجمال.. الذي يمحو خطاياك، يصمم مِشيتك، يفاقم ضحكك وبكاك، يوقظك قبل أن يحين الموعد، يُهندمك، يُصفّف قلبك، ويرتب الوضاءة في عينيك، ثم يستدير حولك.. ويحيطك بالهالة! ولا تسأل من أين يجيء هذا الإيمان، وهذا الشغف، فالسؤال هنا اعتداء على غرط العفوية، طعنٌ في الرقة. امض فقط في الحياة، تقلّب فيها، وهذا ما سيقوله لك عشاق الحياة دوماً! 
الفيلسوف الهندي، سادجورو، شرح مرة أن على الآلام أن تمزقك، قبل أن تمنحك الحياة سريانها الكامن، وقبل أن تصير جاهزاً لإشعاعها، لا بدّ أن تعلكك حتى تتعب منك، ولعل هذا ما فعلته بالروح المأخوذة، حتى النهاية، بذرى “تَهْلَل”!
أخيراً.. خبر الموت كريه وثقيل دوماً، لكنه يصبح عنيفاً حين يحل، بغير توقع، هكذا فجأة، على شكل كلمات مقتضبة. لذا فإني أقترح، على من لديه حس رفيع، ألا تكون حامل الأنباء المريعة! ولا تقلق، الفواجع لا تحتاج إلى سعاة بريد، ستجد طريقها، بدونك!
رحم الله الأديب الكبير، محمد علي علوان، فقد خسرت الثقافة، والكلمات الجميلة، واحداً من كبارها، والعزاء لذويه، زوجته الكريمة، وأبنائه، وتلك الصغيرة الرسامة، التي لم يكن حديثه يخلو منها، ثم العزاء للجميع.. فـ”طائر العشا” نفر بخفة أخيرة.. وحط على غصن الأبد!

محمد ثابت


المصدر: مجلة اليمامة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *