علوَّان.. محمد علوان

3 أكتوبر، 2023 | تأبين | 0 تعليقات

مرَّ أكثر من ربع قرنٍ بالتأكيد منذ التقيته في دار قريبٍ كان صديقًا حميمًا له. وتدرَّجت العلاقة في القرب والسُّمو حتى صرتُ كما أحسب، أقربً إليه من ذلك الصَّديق! ومشينا في طريقٍ نلتمس فيه آمالاً تبقى، ونتداول شجنًا مشتركا. لم نكن نلتقي وهذه العلاقة، إلا في تباعدٍ من الزَّمان. وحين نلتقي كان يغرفُ من لطفه حديثًا يملأ جنبات كلِّ فراغ التباعد الذي مضى، وكأنَّه لم يكن. وظلَّلنا نعود إلى تلك الحال من التباعد والتَّلاقي.
قرأتُ كثيرًا من قصصه، وأزعم أنَّ بعضَه لا يغيب عن أيِّ منها. وحين نلتقي بعد أيِّ إصدار كان يهرب من الحديث عنه إلى فضاءات الأدب الأوسع. كان له أسلوبه القصصي الفريد الذي تكاد تدركه حين قراءة أيٍّ نصٍّ له حتى وإن لم يحمل اسمه. وكان في مسيرته وكأنَّما هو موكَّلٌ بفضاء الله ينثر على جنبات طريقه هذه القصص كلَّ حينٍ وحينٍ غير ملتفتٍ أو آبهٍ لما خلَّفَته من أثر. أمَّا شخصه فكان في كثيرٍ ممَّا يُتقن، مبدعًا في أمرين أوَّلهما التَّواضع المفرط الذي جُبل عليه، طاردًا أيِّ ثناء مُستحَقٍّ بدعابٍة ينفي بها الثَّابت. أمّاَ الثَّاني فهو تلك الابتسامة التي كان يزيد بها الفرح، ويستعين بها على نوائب الدَّهر، نابعةً من قلبٍ مخلصٍ في المحبَّة التي لا يقبل فيها أيَّ نفاق.
كان من عجيبه أنَّ العمل الرَّسمي لم يلق ظلالاً تُضجر أدبيَّته. وتعاملَ بجرأةٍ الواثق مع ما كان يُرفع إليه في مجال الرَّقابة على المطبوعات. واستطاع بقلمه أن يُنقِذ كثيرًا من الكتب من مرارة الإيقاف. لم يكن في عملِّه يحمل أيَّ سمةٍ من تلك المعتادة في بعض المسئولين التقليديِّين، فاتحًا بابه وقلبه لكلِّ عابر. اتصلت به مرَّةً للتأكُّد من وجوده في المكتب للمرور عليه في شأنٍ يتعلَّق بفسح كتاب. واقترح عليَّ أن نلتقي الثانية ظهرًا، واستغربت إذ أن نهاية الدَّوام الرِّسميِّ الثانية والنِّصف. دلفتُ إلى مكتبه وتحدَّثنا عن كلِّ شيءٍ إلاَّ الكتاب الذي أخذ منِّي مسودته في نهاية اللقاء وتصفَّحه ثم قال “أرسل أحد غدًا يأخذ الفسح”. وتوقَّعت حين خروجي بعد نهاية موعد الدَّوام أن نخرج معًا، ولكنَّه أقنعني أن نبقى لمزيدٍ من الحديث ولأنه وجد أن خروجه الثانية والنصف أو الثَّالثة يعني نفس الوقت للوصول إلى داره.
تحدَّثنا قبل زمنٍ قصيرٍ وعمَّا يلاقيه بعض الكتَّاب من عنَت. وأشرتُ إلى مسئولٍ معنيٍّ بالثقافة متسائلاً لماذا لم يعرض عليه المبادرة بشيء. ضحك وقال: “كلَّمته وقال لي اكتب مقالاً”. وكتب المقال الرَّائع “ارفع البندق” الذي تحدَّث فيه بصدقٍ وصراحةٍ ووطنيَّةٍ عمَّا يعانيه المثقَّفون وعمَّا يأملون.
اتَّصلت به لأبعث له نسخةً من كتابي “ورقُ من ناس”، وقال لي “جيت في وقتك، وأنا بأرسل لك كتابي الأخير: تهلَّل”. تهلَّلتُ وقرأتها حال وصولها مستمتعًا بصرير كلِّ حرفٍ وشذى كلِّ بوح. واتَّصلت به ليفاجأني بضحكةٍ معلِّقًا على كتابي بما يُشبه الذَّم قائلاً: “يا عمِّي تبغى تنافسنا في شغلنا”؛ وأنَّى لي ذلك.
رحم الله أخي محمد علوان، وبلَّغه علوًّا بعد مماته، كما أكسبه علوًّا في حياته.

د. زاهر عبدالرحمن عثمان


المصدر: مجلة اليمامة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *