مجموعته (طائر العِشا) نموذجاً..
محمد علوان ريادة في التجديد وجرأة في الطرح واستشراف للهوية

عرفت الأديب الراحل محمد علوان (رحمه الله) منذ عام 1977 حين أصدر مجموعته القصصية الأولى (الخبز و الصمت) التي كتب مقدمتها ناقد أصيل من ألمع نقاد القرن الماضي ، وهو يحيى حقي الذي وصف أثرها في نفسه فقال : “المجموعة التي رجتني رجا عنيفا أخرجتني من ركود واعتكاف؛ إنني استخسر حقاً أن تمرّ هذه المجموعة دون أن تحظى بما هي جديرة به من اهتمام “
ويشير إلى مظاهر الحداثة في هذه المجموعة بقوله :”في هذه القصة الحديثة تضاءلت مكانة الحدوتة ، تركّز الاهتمام على الشعور ، النظرة في أغلب الأحوال إلى الداخل لا إلى الخارج ، قلّ فيها التشبيه ، وكان بين المادي والمادي أو بين المعنوي والمعنوي فإن مالت إليه جمعت الكل في قبضتها. كسرت ترتيب الزمن ، أصبحت أكثر جرأة على معالجة الجنس ، مأساتها الأولى اغتراب الإنسان ولعل اللافت في هذه المجموعة وما تلاها جرأة الاستثمار للتّقنيات الحديثة في فنون السّرد : الأسطرة و الفنتزة و العجائبية و الخروج على المألوف من الإيهام بالواقع و المعالجات العابرة للمشكلات الاجتماعية واستثمار الخاصّية الرئيسة للقصة الرئيسة بوصفها (فن الأزمة) لمقاربة الرؤية الوجودية الفلسفية.
ولعل فيما كتبه محمود تراوري ما يلخص الدور الريادي الذي نهض به محمد علوان “ ما بين (أريد أن أرى الله) أول مجموعة قصصية تصدر في تاريخ الإبداع السعودي عام 1946م للراحل أحمد عبد الغفور عطار، وآخر مجموعة ربما تستوي الآن في المطابع، جرت مياه كثيرة في مسايل الأودية والصحاري والجبال. مئات القصاصين، ومئات المجموعات، مختلف الاتجاهات والتيارات الفنية، استقرار وتقلبات، أمواج ومسارات، عناوين لافتة، ساخنة كخبز الحكايات، وأخرى باردة فاترة. لكن المؤكد أن (بين الخبز والصمت) و(الحكاية تبدا هكذا) و(دامسة) (وهاتف) وصولا إلى (موز ريدة) آخر عمل روائي له، يبقى محمد علي علوان – رحمه الله – علامة فارقة في تاريخ السرد السعودي الحديث (القصة القصيرة) تحديدًا، التي ظل يضئ رحاباتها على مدى نصف قرن.”
ثمة إجماع على أن مجموعته الأولى ولدت مكتملة الأدوات كما يقول عبد الله الماجد ، فقد كتبها مؤلفها عن وعي بما طرأ على القصة القصيرة من تطورات وألوان من التجريب دون إغفال لخصوصية اللغة و الواقع و اللغة و التراث ؛ فثمة وعي بالحمولات الفكرية والهُويّة التراثيّة وتمثل الواقع من خلالها عبر التقنيات التي تتداخل فيها الأنواع الأدبية ، وتتماهى فيها اللغة السّردية مع الشعر والصياغات التراثيّة الكلاسيكية وتوظيف طرائق السرد المتّكئة على الاستباق و الاسترجاع والتلخيص و الفجوة الزمنية و ما إلى ذلك من وسائل .
ولعل اللافت في مجموعته دامسة ظاهرة ما عرف (بالميتا سرد) أي الانشغال بالجانب الإبداعي بوصفه همّاً من هموم المبدع وما وصفه بهطول الفكرة مثلما تهطل الأمطار على جبال السودة ، وفضلا عن ذلك فإن مسألة المكان والانتماء إليه و ما عرف بالهوية الصخرة كانت من شواغله في هذه المجموعة التي تقع على الحدود الفاصلة بين حداثة الأداة و واقعية الرؤية ، والانشغال بالمفارقة التي تنطوي عليها المجموعة ، وقدبدا موضوع الإبداع من القضايا التي شغلت الكاتب في مجموعاته القصصية في مجملها ففي (إحداهن) بدت محورا ن مهما في قصة (ساعة) و غيرها ، وكذلك النسوية وإيماءاته الاجتماعية العميقة في المنعطفات التي ألمت بالبنية الاجتماعية و أوماتها وتوترانها التي تقع في صميم هذا الفن القصصي الذي يوصف بأنه فن ا؟لأزمة .
أما مجموعة (طائر العشا) التي صدرت عام 2020 آخر إصداراته التي تفضل (رحمه الله) بإهدائها لي ، فقد اطوت – في اعتقادي – على ما انتهت إليه فلسفته الجماليّة في هذا الفن ، وكذلك رؤيته للواقع بعد سلسلة الوقائع التي مرّ بها الوطن العربي ؛لقد تماهى الحدث الواقعي المألوف مع الأسطورة حدّ الترميز و التجريد ، فتلاقحت شعريّة الفن مع طقوسيّة السرد وابتهاليّة الروح مع خيال الفن ، وبدا ذلك واضحاً في القصة الأولى من قصص المجموعة الموسومة ب(خبز الغرقى) ولست راغبا في مغامرة التأويل فأزعم أن محمد علوان اختزل رؤيته للمرحلة التاريخية في هذه الخلطة السّحرية التي مزجت بين ما تمخضت عنه الأحداث الجسام التي مرّت بها بلاد الرافدين ، وما تراءى له من التراث الميثولوجي حيث أسطورة الانبعات (خروج طائر الفينيفق من الرماد) وأوهام الانتظار ، ثمة ارتباط وثيق بين المكان بحمولته الحضارية واحتشاده بالتحدّيات في زمن العقم وانسداد الأفق ، استدعاء لمفردات ذات دلالات بعيدة (أم الربيعين) و(عيد النيروز) في مقابل (أم المعارك) وأحلام الانتصار ؛ أما التنّور و لهب النيران ومياه دجلة والغرق فهي ترهص بما انتهت إليه ، حيث لحظة التنوير (زينب وأقراص الخبز وسلالها الكبيرة وإبتلاع النهر لما احتوت عليه من الخبز ) حيث التعويذة العمياء لبقاء الآخرين .
ثمة تقنية شعريّة أخرى تتمثّل في الموازاة الرمزيّة بين الواقع والخيال ، الفعل المتكرّر الروتيني و التفسير المتجدّد ، التفاصيل الهامشيّة و التأمّلات العميقة ، المفارقة بين الماضي و الحاضر ، كما في قصة (الدّرج) حيث الصعود الآمن و الهبوط الحذر، استحضار الوجود في ارتباطه بالكينونة المتحوّلة ، الغاء التاريخ ونسيان الماضي واستثمار الحاضر ، الإصغاء إلى وجيب القلب وذاكرة الوجدان ، قصة أقرب إلى أن تكون محطة للتأمل في حركة الزمن وارتباطه بكينونة الوجود عبر التحديق في مشهد الصعود و الهبوط الذي يعبر عن دينامية الحياة وإغلاق المشهد على التشبث بهذه الكينونة و مقاومة عملية الإلغاء والامّحاء .
المفارقة جوهرالفن كما هو معروف و لكنها أشكال متعدّدة وقد وظّفها محمد علوان في هذه المجموعة على نحو يفضي إلى ألوان من التصورات و الرؤى وتعدد المحطات المكانية ، فبيت الصديق الذي قام بزيارته الأخوان في رحلة حرة قصد المتعة تقع على مقربة من سجن مجاور ، وهذه المحطة الأولى ، ثم زراعة المانجو ذات الثمرات الجميلة الحلوة و هجوم الطيور عليها وتشويهها ، ثم استحضار أجهزة الترانزستور لطرد الطيور المعتدية و تكاثرها نتيجة هذا الإجراء الذي أدّى إلى نتيجة عكسيّة نتيجة عكسية ، هذه محطات لمفارقات ثلاث بالإضافة إلى تماهي الأصوات بين تلك التي تصدر من السجن وغناء الطيور الطليقة . المقدمات التي تفضي إلى نتائج عكسية تلك مفارقات وجودية.
الموازاة بين الحلم و الواقع في رؤية تحليليّة لظاهرة اجتماعية تتعلّق بالجانب النسوي ينخرط فيها السارد في تقصّي الهواجس الداخليّة التي تخالج فتاة تنتمي إلى شريحة اجتماعية فقيرة تحلم بحياة أفضل ، ينحو فيها الكاتب منحىً مغايراً لما اعتاد عليه في قصصه القصيرة كما يتبدّى في قصته (حلم)
وقد بدا أنه في هذ ه المجموعة وسابقتها (إحداهن) قد بدأ يتجه إلى تأمل الواقع وتقصّي مأزقه الاجتماعية و النفسية ، فعمد إلى تشكيل الومضات السرديّة فيما عرف بالقصة القصيرة جداً في أحيان قليلة ، كما هو الحال في قصته (فرح مؤقت) وهي أقرب إلى حديث النفس والبوح والاعتراف ؛ ولكنها تحمل إشارات رمزيّة ذات بعد فلسفيٍّ وجوديٍّ يتعلق بالزمن والإنسان و التحوّلات التي تنتاب البشر ؛ فقد رصدت فيه الساردة الأنثى ما طرأ على مفاتنها من تطوّرات بفعل التقدم في العمر موظّفة اللون الأسود و الأبيض و الرمادي ، وما يرمز إليه كل لون ، فكلّ منها يشير إلى مرحلة من مراحل العمر ، وإلى حالة من أحوال النفس حيث تنتهي إلى اللون الأبيض الذي يومئ إلى الكفن . وفي ذات الاتجاه جاءت قصة (اختيارات) قصيرة جدا معتمدة على شعريّة المفارقة ؛ إذ تم اختيار السجين للغرفة المتعددة الأبواب بدلاً من ذات الباب الواحد ؛ حيث تبيّن بعد ذلك أنها ذات باب واحد؛ أما الأبواب الأخرى فمرسومة على الحائط ، ومثلها قصة (هلا .. ترسم)
وعلى هذه الشاكلة جاءت قصة (فرات) التي وضع لها عنواناً مغايراً في الفهرست (عمياء) عمد فيها إلى التقاط هواجس البطلة الضريرة التي عاشت مع ابنها الذي كان وحيدها المؤنس لوحدتها البارّ بها ، فتقصّى خواطرها وهي في انتظاره إلى أن كانت الفاجعة التي نقلها جوالها الذي لم يكن فيه سوى رقم التواصل الوحيد مع ابنها ؛ لقد بدا محمد علوان أقرب إلى تحسّس نبض المجتمع والتقاط وجيبه في هذه المجموعة .
بدا واضحاً أن الاهتمام بالشخصية و بناء النموذج الأنثوي على وجه الخصوص شاغلاً من شواغله الأساسيّة عبر ما يمكن أن نصفه بالبورتريه ؛ فالوصف الدقيق للملامح و التصرفات و الاستبطان العميق لما ينبيء عنه السلوك بتفاصيله الدقيقة عبر عدسته اللاقطة ، ومضى على نهجه الجديد في احتفاله بالشخصية و الارتحال في دواخلها ، ففي قصته الموسومة ب(ميزان ) يتقرّى ملامح شخصيّة أنثويّة ملتقطاً أدقّ ملامحها التي تنبيء عن فتنتها الجماليّة وبنيتها النفسيّة ، وعلى النهج ذاته يتعامل مع الملامح المكانيّة في اصطفاء دقيق لسماتها العمرانيّة ويعمد إلى تماهي الأشياء مع الأحياء فيستنطقها ، ويسرد الوقائع على لسانها كما في قصته (مصباح)
و اللافت في هذه المجموعة تلك العودة إلى حقبة سلفت تتصل بمرحلة الانتقال من القرية إلى المدينة، وهي المرحلة التي عني بها الجيل السابق من كتّاب القصة القصيرة ، حيث الصدمة الحضاريّة التي يواجهها الذين تفجؤهم مظاهر المدنية الحديثة ، كما في قصته (رصاصة)
وقصة ( طائر العِشا) التي سُميت باسمها المجموعة من أطول قصص المجموعة ، وهي تجمع بين الواقعيّة و الأسطوريّة ، ولكنها تلتزم بالنهج الحكائي الذي تتسلسل فيه الوقائع في خط زمني متصل ذا نكهة شعبية تحمل ملامح المكان وثقافته السائدة ، ولغتها مطعّمة بإيقاع اللهجة المحلية السائدة ، وقد التزم فيها الكاتب نهجه المعتاد في تشكيل الشخصية و تركيزه على النسائيّة منها ، وفيها يختصر الظواهر النفسيّة و الاجتماعيّة في بناء النموذج فيجمع بين خصوصية المكان وواقعيته و ميثولوجيا الثقافة السائدة فيه ، وليس من شك أن مجموعته طائر العشا التي تعد من آخر إصداراته قد انطوت على خصوصية نهجه في كتابة القصة القصيرة وتميز رؤيته لهذا الفن و للمرحلة التاريخية.
رحم الله الصديق الراحل محمد علوان و أسكنه فسيح جناته .
د. محمد صالح الشنطي
المصدر: مجلة اليمامة

0 تعليق