عزيزتي .. الأغنام هنا .. الحمير .. الدجاج .. الناس في هذه القرية النائية حيث يقطع الشخص مئات من الكيلومترات راكباً عربة مليئة بالصفائح الفارغة والحقائب الحديدية والوجوه المتعبة ، جميعهم على درحة واحدة من الوعي .. وأنا .. الطبيب الجراح .. خريج الجامعة الكبيرة .. أترك المدينة بصخبها وحياتها إلى هنا لهذه القرية المنعزلة
لا نعرف من الفاكهة واللحم والخضروات إلا بقايا ما يجلبه القادمون من المدينة وفي يوم واحد من أيام الأسبوع .. الوجوه.. الأيدي .. الأقدام نحتت من هذه الجبال السوداء .. تجهمت .. قست عليا الحياة .. تجري لأهثة وراء الأغنام أعترف لهم بشيء واحد .. مقدرتهم الفائقة على التحميل والصبر ويملكون من الطيبة الكثير .. هذا في البداية أما الآن فأحس نحوهم بالكره والضيق والقرف .. أصطدم كل يوم بهذه النوعيات أنماط مختلفة لا تأتي إلا حيث تكون قريبة من الموت أو تستفحل المرض .. لا أملك حيلة والدواء ناقص حتى الممرضة الوحيدة طلبت الاستقالة من العمل وعادت تاركة لي المواجهة فماذا يمكن أن أفعل سوى الكتابة إليك وأنت تنعمين بالحياة.. أرجو أن تكون النقود تصلك بانتظام .. أصرف مبلغاً كبيراً في السكن والمأكل عدا مصاريف المواصلات إلى المدينة. عزيزتي …. – تفضل .. أدخل .. قالها بقرف .. طوى الرسالة .. وضعها في جيبه ..نظر إلى الباب المفتوح ليجد واحداً منهم . أسود اللون . نحيلاً . حافي القدمين . الشعر الطويل مسترسل فوق كتفيه . يلمع من أثر الدهن .. مئزر قصير يحيط بوسطه .. اندلقت منه ساقان سوداوان بها آثار جروح واتضحة وبريق دهن وضع لتخفيف آلام الشقوق في الساق والقدم . في عينيه الذابلتين .. كان المرض يطفيء فيهما بريق الحياة .. أصابعه المرتجفة .. صوته الأجش وخلفه إبنة صغيرة .. فتحت فمها نصف فتحة .. شعر طويل غاب عنه الماء لعدة أسابيع .. فوق جسدها الناحل رداء خفيف أسود اللون .. سعالها الشديد يهزها في عنف .. تحمر عيناها تمتليء بالدمع .. تمسح العين .. الفم بطرف كمها .. في حركة عفوية تشبك أصابعها .. تنظر في ذهول إلى الطبيب .. نظارته .. ملابسه البيضاء .. رأسه الأصلع .. لونه المختلف عن ألوانهم في قريتها يقولون أن ذوي السحنات الحمراء ((خواجات)) أ×ذت تقارن بين يد والدها المتدلية بجانب وجهها وبين يدي الطبيب النظيفة .. الدم يكاد ينفجر منها .. قادم من هناك .. يتحدث بلهجة غريبة يعرفها الأب وكبار أهل القرية .. اشتهر بحب شديد للنقود .. يصرخ .. يغمغم بكلمات لا تفهم غير أن تعابير وجهه توحي بالغضب والاستياء والقرف الشديد . .. هم قادمون من هناك .. من الجبال البعيدة .. حيث ينبث الطلح والحجارة .. تمطر السماء محرقة .. الرعاة من جبل لآخر .. وراء الأغنام .. خلف أحلامهم .. وصوت حزين يصدر من الحناجر تردد صداه رؤوس الجبال .. حيث لا يملك الإنسان إلا الغناء. الطبيب يسأله .. يهز أصابعه في وجه الرجل آمراً إياه بعدم الاقتراب .. لغة التفاهم معدومة من بعد .. كتب الدواء ..الرجل حاول أن يقول شيئاً . – أخرج . صاح الرجل : . زوجتي .. زوجتي . – كلكم مرضى .. المرض يطاردني في كل مكان .. ماذا أفعل بكم ؟ الطفلة الصغيرة تحملق .. تتعلق بمئزر والدها .. ترتفع عيناها إلى والدها .. الأب يرتجف غضباً وألماً .. لكن ماذا يفعل ؟ إنه فوق الكل . يخرج .. يتمنطق بخنجره .. أحس بكرامته المجروحة أمام إبنته .. لم يطرد في حياته غير هذه المرة هو المعروف في قبيلته .. بالعقل والرزانة والقوة .. هو من يحل مشاكلهم. الاختلاف له مظهر واحد .. الشجر والأرض والماء تعرف بعضها البعض .. لذا ليس هناك فوارق .. الحب .. العمل .. الشجاعة .. الصبر موازين مختلفة جبلية قاسية كالحجارة معقدة كجباه الرجال ساعة الألم والغضب .. صادقة صدق أغاني الرعاة ساعة الغروب حيث يئوب الناس إلى القرى في الجبال والأودية والسهول .. عين نائمة وأخرى ترقب إلا النجم والشمس والذئاب . زوجته لا زالت تئن .. تتأوه .. ماذا بوسعه أن يقدم لها كثيرات أمثالها يلدن .. وربما تتعسر الولادة .. تموت المرأة .. تظل الأشجار ترتفع عن قاع الوادي .. لكن السيل يلحقها .. يطاردها .. الطبيب يريد نقوداً .. نعم لا .. يتراجع .. أيعطيه نقوداً ويضمن سلامة زوجته .. لكن لماذا ؟ .. الزوجة تصرخ من حين لآخر .. آلام المخاض تشتد .. طفلته الصغيرة بجانب رأسها .. تأتي لها بالماء .. وضوء فانوس صغير بنوره الأصفر .. والزجاجة المملوءة دخاناً أسود يتسلل في زوايا الحجرة .. الأغنام رابضة تجتر في صوت مسموع .. الكلا بتنبح ذلك النباح الطويل .. عند كل نباح كانت الطفل ترفع رأسها .. تمسح بنظراتها وجه الأم الحائر في استفهام صام .. أتموت ؟ .. تحتضن رأس الأم .. نباح الكلب ارتبط بالموت .. هل الموت راحة ؟ ربما .. انحنت .. قبلت الجبين .. عرق بارد مسحته بكفها الصغيرة ودمعة حارة سقطت على الوجه المتألم .. عين الأم تنفتح في بطء شديد .. بنظرة يقول : لا .. لا .. البكاء لا يفيد .. طيف ابتسامة باهتة .. الشفتان تطلبان الماء .. أحضرت الطفلة الماء من القرية المدبوغة بأوراق (( السدر)) . الهدوء يعود . يسيل في الوادي . . يغمر الكائنات .. النجوم تزداد لمعاناً .. الأغنام توقف الاجترار حين توجس حركة أو صوت .. المرأة تتوقف آلامها .. تنام الطفلة وهي تحضن الرأس المتعب .. تغفو ومن فمها المفتوح يسيل اللعاب .. كدم أبيض من جراح الآلام والتعب . الأب المسكين .. يراقب .. ينقل عينيه .. هنا وهناك .. بسبابته يداعب شعره الطويل أيذهب إلى قرية زوجته ليحضر عمتها .. أيأتي بالطبيب ؟ وهو من يتورع عن طلب النقود .. استلقى سحب نفسه إلى الأسفل .. كفه فوق جبينه .. عيناه إلى السقف .. تتابع سحب الدخان الصاعدة من الفانوس الصغير .. الدخان كثيف . أجفانه تتثقل شيئاً فشيئاً .. الرؤية تنعدم الدخان يتحول إلى اللون الأبيض .. ليس دخاناً كما يرى .. الضباب .. المطر والبرق والرعود .. هو يسرع الخطى ليصل إلى الطبيب .. يسرع .. أهل القرية سيولونها العناية .. فليسرع .. الأشجار لا تنمو متفرقة وحتى لو حدث ذلك فجذورها تتلاشى لتشرب من ماء واحد . مائة ريال . مئات الخطوات المتعبة . مئات الأيام القاسية .. مئات الآمال الخضراء .. زوجته أم المال ؟ .. يقطب جبينه .. سيستمر في سيره .. وضباب كثيف .. يملأ كل شيء .. فيكشف مقبلاً منزل الطبيب .. يده تنحدر .. تمسك مقبض الخنجر .. أيطرده مثل الكلب؟ .. الانهزام ليست في المواجهة.. الانهزام في المفاجأة … الوقت الآن لا يدركه .. اللون الرمادي يملأ المكان .. لا شمس .. أيطرده ؟ الحقد يمو .. لعابه يتحول إلى طعم مر .. الجرح هو الجرح في كل مكان لا زالوا يزيلون الجراح الكثيرة القذرة .. يستأصلونها .. من إبهامه .. قدمه فخذه . مواضع كثيرة لجروح أخذت معها اللحم والألم ينفجر وهذا الطبيب جرح .. قليل من الدماء ليعود الجسد صحيحاً .. هذا الطبيب جرح .. يدخل الغرفة .. الطبيب .. زوجته المريضة .. الصراخ الأغنام .. أيطرد مثل الكلام.. يده تمسك بالخنجر .. ترتجف .. عينه تحمر .. أنفاسه تتلاحق .. قليل من الدماء ويبرأ الجرح .. يرفع يده .. والخنجر يلمع وسط اللون الرمادي .. لون الضباب .. يده تهوى .. الصراخ يتعالى … يستيقظ الطفلة الصغيرة تمسح فمها .. صراخ الأم يزداد.. الوقت يرزح فوق الجميع .. الأغنام توقف الاجترار .. النار توقد .. جارات المرأة يصلن ..ومع الصباح كان الطفل يرتفع صراخه.

0 تعليق