كان ينظر في خوف . عيناه . تحوطهما هالة سوداء ، الشعر ينبت فوق وجهه . يزيد من كآبته بين آونة وأخرى .. يخرج لساناً تحول إلى لون باهت ليمرره فوق شفته السابسة . يمسح أنفه .. يعدل من وضع ملابسه بحركة مرتبكة ، انفعالية .. لم يلبث أن أصدر تنهيدة فتحت صدره ثم ابتلع لعابة وأشار إلى المحجيطين به كمن يرغب في رشفة ماء . قيل له : انتظر . ما وسعه
الانتظار بل واجه المحيطين به بابتسامة ذليلة تقول له : شكراً على الماء البارد.وقال لهم بنظرة أخرى : أيها السادة أريد .. أريد – أكرمكم الله- بيت الخلاء . قيل له : وما الداعي لذلك فإلى الآن لم يصدر الأمر بسقياك الماء ؟ إنتظر حتى تشرب ومن ثم إفعل ما شئت . عندها وضع إبهامه في فمه . امتصه بحنق .. عضه بقوة هائلة .. وشرق بحزنه. نظر إليهم وعينه تتحدث : تلك ترتيبات منطقية .. بل وتبدو معقولة. عليك بادئ الأمر أن تطلب الماء ومتى ما وصل إلى حلقك فإن الأمور التالية لذلك ستكون طبيعية . الغرفة خالية من كل شيء .. الأرض باردة .. الجدران عالية .. با نافذة مربعة .. زحام المدينة .. أصوات الباعة تنساب إلى أذنه .. أبواق العربات تطرق أذنه .. فوق الأرض رأى .. قصاصة صغيرة تبقت من جريدة يومية كان محتواها مصلحة المجاري والمياه بعد دمجها تعلن الانقطاع المؤقت لمدة ثلاثة أيام متتالية عن حي (الماء الصافي) نظراً لوجود بعض الترتيبات الصحية لفصل مياه المجاري التي اختلطت بمياه الشرب . تذكر ساعتها الترتيبات المنطقية للأشياء وعرف الفارق بين دخول الماء وخروجه. إنفجر السؤال على حين غرة منه : أخرج ما في جيبك . حين انتصب لفعل ذلك عاجله الصوت : كما أنت .. على هيئتك السابقة . تحدث بصوت خشبي : وأنا جالس ؟ أغمض الصوت عينيه . حدث بظن قلق أن عنى ذلك الإيجاب أخرج من جيبه مجموعة من الأشياء بسيطة ، تافهة ، رخيصة الثمن كتب في المحضر ما يلي وبخط سيء : وجد مع المتهم ثدي رضاعة صغيرة ، قلم ليس به نقطة واحدة من الحبر ، ورقة بيضاء تتوسطها نقطة سوداء في وسط الصفحة وحين سئل المتهم عن ذلك كانت إجابته على النحو التالي : (كان يراودني إحساس قابل بحاجتي الماسة كل ليلة إلى الامتصاص ، ولكنني لم أجد حتى هذه اللحظة القارورة التي يمكن امتلاكها دون أن تنكسر ودون أن تغير السوائل التي بها ودون الشعور أمام الآخرين بأنني أرتكب في نظرهم خطأ يوردني إلى التهلكة . لذا كنت كل ليلة أضع الثدي في فمي وأرضع الهواء وحين كشف علّي ممرض متدرب وجد بطني مليئة بالطين بكيت كثيراً وقال لي : موتك الحتمي أصبح ضرورة فلم يعد بإمكانك أن تحقق لك أو للآخرين فائدة . قلت له : سوف أحاول .. منذ تلك اللحظة وجدت قلمي ليس به نقطة حبر واحدة . وقد شاع بين الناس أن الحبر مادة سامة من جراء بقاء الباخرة الحاملة للحبر عدة أشهر في عرض البحر الأمر الذي يستدعي فساده وعدم صلاحيته للكتابة وخوفاً من العدوى لكي لا تصيب أفراد الأمة وحرصا ًعلى بقاء الأمة في منجاة من هذا السم فقد صدر قرار مصلحة الصحة العامة ببقاء الناس بدون حبر حتى يقض الله باخرة تحمله من مزارع الحبر وقيل لي : قد لا يستمر ذلك طويلاً . وكنت في كل ليلة أحاول قدر المستطاع التفوق على مجموعة القوم واهتماماتهم المحدودة بشراء الفول والعيش وفي الظهيرة يذبحون الخراف ويسمعون الأخبار المثلجة وفي الليل يبتاعون الملابس الداخلية ويتجشأون . ولا زلت أحاول دون ملل أن أجعل هذا القلم يكتب وحين ضغطت بما تبقى لي من قوة والأفكار تدور برأسي وتزدحم لا تجد لها المستجيب لفظ القلم أنفاسه الأخيرة فوق هذه الصفحة البيضاء بكل سوء وكانت هذه الورقة ذات النقطة السوداء . سألهم : هل يلزم ذلك أن يوقع . قيل له : نعم . تعجب وقال : إذاً فلديكم حبر ؟ قيل له : ليس هذا عملك . وقع . تخيل نفسه لصاً يسرق الحبر يدلقه فوق الصفحة للتحول إلى لون أسود يكتب فوقها بالطباشير وحتماً فذلك متوفر في المدارس المنتشرة التي استغنت عنه .. التلاميذ يمارسون لعبة كرة القدم والطائرة والتنس ثم يتناولون وجبة الغداء فينسل النوم إلى أعينهم ويلقي عليهم المدرس الدرس الأخير مدرس بصير وحين ينتهي من إلقاء درسه مفخراً بينه وبين نفسه بهذا الصمت تسقط عصاه فوق رأس طالب أمامه فيدب الصحو ويدق جرس الخروج .. ينتشر الظلام .. تضاء مصابيح الطرقات قال للمحيطين به : أيمكن أن أعرف .. لم أنا هنا ؟ تضج القاعة بالضحك . يرخي رأسه إلى الأرض .. قيل له : وكتاباتك على الجدران ؟ أتنكرها أيها الغبي القذر ؟ قال في نفسه : أشكر لمولاي نعمة الغباء في زمن الذكاء اللامع فوق أحذيتكم . أردف : ما هي . قيل : أتنكر أنك كتبت فوق الجدران عبارة (تسقط الأوراق في الرريع) نظر إلى الجميع بحركة دائرية .. اختبأ .. تراجع قليلاً . حين أحس بصلابة الجدران تسند ظهره تحدث : أقدر حسن معرفتكم بالفصول وما يحدث في الفصول . كما أقف إعجاباً لإدراككم ترتيب الأشياء ووضعها في موضعها . لذا أقدم جل اعتذاري ويمكن لي أن أشطب الربيع وأضع بدلاً عنه أي فصل آخر .. الشتاء .. الصيف .. أو الخريف .. الشيء الذي أعرفه هو الوصول إلى النتيجة الحتمية .. الأوراق ستسقط إن لم يكن في الربيع فمن الطبيعي في فصل آخر .. وأنا أحبذ الربيع لشيء واحد إسمحوا لي أيها السادة أن أبرره . فأنا بمقولتي هذه التي كتبتها بكل فوضى فوق جدار مقبرة للفقراء تحولت فيما بعد إلى قطعة للمساهمة ابتاعا نفر من ذوي الحظ المحدود . عندئذ حدثت الصدمة ، إلا أنني أثق أننا لو اعتدنا عليها ستمر بسلام والتهمة في رأيي زاوية للرأفة تمنحني الماء ، وطالما أن الأشياء يمكن قبولها بمفاهيم مختلفة فلا ضير م ذلك طالما أننا سنصل إلى نتيجة السقوط الحتمية . جاء واحد متهم بعد أعطى الأمر فأفسح له الطريق .. قال له : أخرج لسانك : مط شفتيه . أطفأ ضوء المصباح اليدوي قال : أشجار اللوز التي بحلقك احترقت كلها . قال : لم أكن أعرف أن أشجار اللوز يمكن كأن تنبت بالحلق . نظر إليه الطبيب : أيها المتهم الناس حفنة من تراب يمكن أن تثمر أي شيء وأنت رجل محظوظ فقد نبتت لك أشجار اللوز . أردف المتهم : وتركتموها تحترق ؟ جاء في التقرير : التهمة : الخيانة .. عظمى .. صغرى .. لا يهم فلقد خان المتهم نفسه بحرق الأشجار دون اسشارة الأطباء ثم حاول تشويه الربيع باتهامه بإسقاط الأوراق عندما تحل ورديته وذلك مخالف لما اعتاده الناس .. الحكم .. لا بد من إعدامه فهو رجل مجنون . قال لهم : أدخلوني المستشفى . قيل : لا .. إن أحوالهم تتحسن وأنت خطر عليهم . ظل دون ماء .. حينما جاء الربيع .. وسط مساحة خضراء الزهور تملأ الأرض .. سقط ورقة ورقة ..

0 تعليق