لم يكن من المعتاد دخولنا في صفوف منتظمة .. صامتة .. إلا من بعض نظرات الابتسام المتبادل أو تلك اللفتات كاعتذار مهنذب أو قليل من تلك الانحناءات المسرحية غير المتقنة .. مثبتة في حنايا كل واحد منا الشعور بشخصيته المتمدنة. ولم يكن من المعتاد أن نملك ذلك الصبر الجليدي .. الذي أتاح هدوءاً ملموساً أضفى على الموقف سمة حضارية . رغم الشعور العميق بزيف
الموقف بشكل عام حين التفت . وجدتي وقليلاً من الناس منغرزين في الأرض بفعل الرمال الصحراوية قيل (( الرمل أي شيء .. وبنفس القدرة يمحو الشكل)).لست الطويل الوحيد بينهم .. إلا أنا قلة .. وجدت الجميع يبحثون فوق سطح الأرض عن شيء مفقود .. زاد من غرابة الموقف أنهم بلا استثناء كانوا يبحثون بطريقة تلفت الانتباه .. وبحركات تثير الدهشة .. ويحمل كل واحد منهم مشعلاً كبيراً . ينقب في مسيرته عن شيء أجهله تماماً .. دائرة الاستغراب تزداد مع مرور الوقت حاولت السؤال.. الجميع منشغلون .. انتظرت .. وحدثت نفسي : لا بد وأن ينال منهم التعب. لم أعد أطيق احتمالاً .. أمسكت بتلابيب أحدهم .. صرخ .. جثا على ركبتيه .. بكى كطفل ضل الثدي .. أصغيت لما يحاول أن يفمني اياه العين .. الأذن .. الفم نظرت إليه وجدته يملك أذاناً وعيناً وفماً . – أأنت مجنون؟ هز رأسه بالنفي .. ونطق : هذا ما أخشاه . أخذ القنديل .. لحق بهم .. ظل يبحث بدرجة كبيرة من الاهتام .. عرفت فيما بعد أن أشخاصاً ثلاثة فقدوا أعضاء السمع والبصر والكلام في أوقات مختلفة وفي أماكن مختلفة. كان منطقياً أن يبحث كل واحد منهم عما فقده . ضربت بقبضة يدي الجدار القريب .. صحت في تساؤل .. إلا أن الجميع يبحثون بنفس الاهتمام والجدية. حاولت فهم المغزى من ذلك .. لم أستطع .. خمننت أن تصرف لا إرادي وخوفاً من تكرار الحادث في زمن مختلف ومكان آخر .. وتحسباً للمستقبل فلا بد أن يملك الإنسان عضواً بديلاً حتى وإن كان على شاكلة خشبية . لكي تكون هذه المرثية أكثر فائدة .. أكثر تحديداً فإنه من المستحسن لي ولكم أن أحدثكم عن الوقت .. الزمن .. الدقائق .. الثواني .. مجموعة علامات متشابكة لم نحن استغلالها .. رفضناها مع إدراكنا العميق لما يعنيه ذلك . شيء واحد استطعناه .. بعد الاقتناع .. هو ذلك الشعور بالانهزام . اعتذر عن هذا الاستطراد الزمني .. الوقت به متسع وعلاوة على ذلك فإنه غير مهم . تفّرع صوت المؤذن إلى كل الحارات مخبراً بغروب الشمس .. ها هو نهار قد انقضى .. الجميع لم يجد ما يبحث عنه .. حاول الانحناء .. لم أستطع .. آلمني ظهري .. لم أرى شيئاً .. صرخت بهم : أيها المخبولون .. حافظوا على ما بقي لكم .. انتظرت الإجابة دهراً بكامله .. الحي الذي أسكنه كبير جداً .. به شوارع نظيفة وشوارع أخرى متوسطة النظافة وسبل أخرى ضيقة منعدمة النظافة .. بها مطعم كبير لا يقدم طيلة الأسبوع سوى طبق واحد من الطعام .. صاحب المطعم لا يحب إلا السمك ففرض على هذا الحي حب هذا النوع من الطعام . أعجبت من ذلك الحي الداخلي .. لا يشرف على النهر الالكبير المملوء بالأسماك .. أهل الحي يحبون اللحم ..والنهر بعيد ..وتكاليف النقل مرهقة .. يصل السمك إلى الحي وقد فقد الكثير من صفاته . بعد صدور أنظمة النظافة والاعتناء بالمظهر للخروج بشكل مشرف أمام الغرباء ومحافظة على هذا المستوى فإنه لابد من أكل السمك في محاولة يائسة لقتل ذبابة بنفسجية جميلة ذات شكل موحش .. اكتشف مؤخراً أنها كانت السبب الرئيسي في اغتيال الخيول.. العلاقة بين أكل السمك والذبابة البنفسجية علاقة مقبولة نوعا ما وهي أن هذه الذبابة اللعينة جاءت من البحر والسمك نبت من الماء .. نظرية معروفة ((الإفناء الذاتي لمصلحة الأطراف الأخرى)) . حدثني شيخ كبير السن اعتدت دائما ًعلى تصديقه : هناك في داخل البحر تنمو شجرة كبيرة .. زرقاء اللون .. تثمر سمكاً .. تختلف الأشجار من بحر لآخر ولذا كان من البديهي أن كل الكلام الذي تفوه به الشيخ الوقور وقع في نفسي موقع الاحترام .. ثم ما لبث أن غزاني شعور أشبه بالحزن الطافح حين عرفت أن ما حدثني به الشيخ الوقور مختلق وأنه يعرف الحقيقة كاملة ويعرف أيضاً مقدار الكذب الموحش فيما قاله . ذات مرة .. كان الوقت فجراً .. قامت الطيور بوعي كامل – بتدمير أعشاشها خرجت تبحث عن شجرة وارفة الظلال بعد أن أصاب موقع أعشاشهم عطش شديد مما كان له الأثر السريع في إسقاط الأوراق الخضراء .. ولم يعد بإمكان الطيور المكوث .. فقد فضحت الشمس جميع الطيور في صباح باكر حيث أشرقت عليهم وهم في أوضاع مشينة. قال لي يعظني : يا بني .. إن السؤال مذلة. فتحت فمي استغراباً .. خرجت من عيني أسراب متتالية من طيور الدهشة قلت له : موقف رائع أيها الشيخ . نعم .. نعم . هز رأسه . انتشرت في الجو رائحة الحبور . فسر بقوله : لا تسأل كيف ؟ وأن ؟ ولماذا؟ ومتى ؟ عادت طيور الدهشة إلى المواني فزعة مذعورة . قلت له : ياسيدي العزيز أخطأت في تصور المعنى الدقيق للكلمة.. فالسؤال وهو ما وافقتك عله مناقض لما قمت بتفسيره الآن . نظرا إلى شزراً .. ملأت الجو رائحة انحسار مفاجئ .. قام بالتربيت على كتفي رفع رأسه إلى السماء : أيها الرب .. إحفظه من شر لسانه . آخر أبيات المرثية . البيت الأول : طفل صغير جداً علمه أبوه عن جده – وهو غير معروف لكثرة انتقاله وعدم استقراره – أن يحمل السن من داخل فمه ويقذف بها عن الشمس يطلب منها البحث له عن سن غزال جميل . البيت الثاني : أقبلت الفرس تتهاوى .. تنوء بحمل ثقيل فوق ظهرها .. تكاد أرجلها تنغرز في بحر من رمل .. لا تطيق حمله ولم يطق الانفكاك عنها .. قيل أنه مع الاعتياد التصق بشكل عجيب بظهر الفرس أصبح والفرس قطعة واحدة كتمثال مغبر في ميدان واسع . البيت الثالث : ثلاثة أطفال صغار .. حضروا بشعور من الاستسلام الغريب وفاة أمهم .. لم يذرفوا دمعة .. فقط طالبوا والدهم بأن يكون كفن أمهم من ملابسهم جميعاً. البيت الأخير : قيل لهم : لكنكم ستصبحون عراة والشتاء لا يرحم .. لم يشعر الأب بالدمع وهو ينفجر نبعاً من عينيه .. تحول الدمع إلى سحابة .. حملت الفرس الموهنة ترجل الفارس عنها. حين نظرت إلى الأم والأطفال .. لم تجد أحداً فقد كانت في هذه الليلة الباردة وحدة داخل قبر في الصحراء.

0 تعليق