– الله ياخذ عقلك .. حين نظر إليها ضاحكاً .. بادلته بنظرة .. ارتسم فيها كم من المعاني لم يعرف لحظتها كيف يفرز تلك المعاني ، إلا أنه أحس بدقات قلبه تتسارع .. نفسه يضيق .. ابتلع ريقه .. أحس بضعف يتسلل إلى ساقيه فلا تستطيعان حمل ذلك الجسد النحيل الطويل . همست بصوت خفيض وكأنها تحدث نفسها : – خبل .. وزاد الهمس انخفاضاً : خبل جميل . تمالك نفسهوتذكر لحظتها أن لابد من موقف لايشعرها بضعفه حتى أمام حسنها الذي لايقاوم . فما كان منه إلا أن ابتسم .. بادلته الابتسام .. ثم أشاحت بوجهها .. قالت لرفيقتها : هيا . انطلقتا .. وقبل أن تغيبا ، وفي آخر زاوية الشارع التفتت .. كان ثابتاً كالمسمار ولما يزل يرسم على وجهه صورة الابتسامة . عادت عضلات وجهه إلى حالتها الطبيعية ، أدرك حينها أن الوصول تم . ركض كما لم يركض من قبل .. ثم توقف فجأة .. وسار الهوينى ثم عاود الركض ، التفت إلى كل الاتجاهات فلم يجد أحداً . نظر إلى البئر . وأشجار التين تحيط بها من كل جانب . وشجرة التوت الضخمة تفضح خضرتها ثمارها البيضاء . كان الليل دقيقة وراء دقيقة يدفع بضوء النهار إلى جهة الغرب فلا تبدو في أعالي الجبال سوى تلك الحمرة الشفيفة ورؤوس الأشجار تنغمس في لون الخضرة الذي يميل إلى السواد . شاهد قريته الحبيبة تكاد تنطق مداميك مبانيها ، نتوء أحجارها ، أبوابها الكثيفة ، نوافذها الصغيرة .. شعر لحظتها أنها تشاركه فرحة خبيئة ، تكاد تفضحه رغبة في الصراخ والاعلان عن حبه لدامسة . نور عجيب يضيء قلبه . حفظ عن ظهر قلب أحجار قريته حجراً حجراً ، طرقها الملتوية ، سبلها المسقوفة الخفيضة . تعود أن يمشي في الظلام ، فتنتابه رعشة خفيفة لكنه عرف كيف يسير عبر أزقة قريته دون أن يصطدم بحمار رابض أو معدل مطروح على الأرض ينتظر قرار البناء . الله ياخذ عقلك .. كأنه يسمعها لأول مرة ، وللوهلة الأولى لم تثر لديه سوى شعور بالغبطة ، تلك مرحلة من خوف ، وقف فجأة ، رائحة روث البقر تصعقه ، تحرك قليلاً ، توقف ، كاد أن يصطدم بالبقرة التي افترشت الأرض وهي تجتر عشائها تبين له جسمها بلونه الذي يميل إلى السواد . انزاح قليلاً ، قفز فوق مجرى الماء المبتل ، الليل شديد الاظلام ، أدرك أنه وصل ، رفع نظره .. ارتطمت عيناه بسقف المنزل المهجور ، داخله خوف حقيقي هذه المرة ، جمع قبضته اليمنى على عصاه ، وكأنه يستمد شجاعة غير منظورة ، يمسك بها لتقيم عمود ظهره الذي انحنى ، وقف متصلباً ، هبت نسائم باردة ، والجميع داخل بيوتهم ماعداه . الله ياخذ عقلك : تخرج من بين شفتيها ، استعاد هدوءه . أمسك بقوة على رأس ( مشعابه ) أحس بصلابة تلك العصا تنتقل الصلابة إلى ذراعه ، يستنشق هواء عميقاً . صوت الكلاب يشق هدوء لليل من بعد ، وفي الليل يسافر الصوت يجتاز المسافة ، قبالة بيته . كان كالحجر الذي انغرس أشبه بمقعد طالما جلس فوقه ، ينظر إلى بيوت القرية التي تتسلق الجبل ، تتداخل ملتصقة ببعضها البعض ، متقاربة ينظر إليها الناظر كبيت واحد بعشرات الأبواب ، بنوافذ متعددة تنظر إلى جميع الأنحاء ، هل تخشى شيئاً تلك البيوت الطينية ، هذه الأحجار الصلدة هل يقبع في داخل صلابتها خوف يشبه خوف الإنسان وحيرته ؟! مسح بناظريه النوافذ المشرعة حيث تنبثق منها أضواء الفوانيس حيث ترتسم فوق الجدران ، داخل البيوت خيالات أهل البيت ، الداخل والخارج ، يشاهد بين حين وآخر رأساً يقترب من النافذة تكاد لاتبين ملامحه ، لكنه يعرفه حين يرتفع صوته مهللاً . أمامه .. يقبع بيته وحركة أمه داخل ( الملهب ) الذي امتلأ بالسواد تشعره بقرب وقت العشاء . لايدري لماذا تذكر وجه خالته .. ذات السمنة الواضحة ، تذكر شعرها وقصتها المستوية ، يلمع دهناً وسواداً حالكاً ، أسنان ناصعة البياض ، كاد الضوء الخافت يموت والنور المتراقص المنبعث من الفانوس يعطي للظلال بعداً ، ويعطي للأجسام أحجاماً هائلة . أرعبه في تلك السن ، صوت الكلاب الذي بدأ يتعالى لم يعد يرى الوجه السمين ، الأسنان البيضاء . انسل في هدوء كاذب إلى المنزل ، وحين أغلق الباب انتشله صوت أمه تذكره بإحكام إغلاقه صعد الدرج العريض ورائحة روث الأغنام لاتزال تزكم أنفه . تلك البقعة الضوئية تتراقص على وجه خالته ، تغطي جزءاً من الأنف ، من الأذن ، يشاهد من زاويته نصف الفم ، بريق أخاذ يبحر به عبر الوجه الذي يعرفه ، ثم يخفت الضوء شيئاً فشيئاً تنهمر من فمها الحكايات ، والأفواه فاغرة والنعاس الذي يثقل الأجفان يجعلنا لاندرك الفرق بين الحلم والحقيقة . عنز الجبل .. أشبه بوحش خرافي يملأ المكان ، تضج به الزوايا ، تلك العنز .. هي من بنات الجان فقدت حبيبها الانسي ، الذي غادر إلى الشام التحق بالجندية ، أقسمت على الانتقام ، خرجت من القرية ، سكنت أعلى الجبل حيث الأشجار المتواصلة ووحوش الليل التي لاتهابها ولاتخشاها . وحين يصرخ حيوان أو انسان فإن هذه العنزة اللعينة تعيد الكلام فيخترم القلوب هلع يعجل بالخطى .. ويخرس الألسن . تجاوبها الجبال فإذا بالصوت ينتقل من مكان إلى آخر .. يحمله طائر الليل الذي لايؤوب يهرب أطفال القرية في الليل الدامس إلى الغرف الضيقة ، يشعرون بأنفاس بعضهم البعض . ويسري الهمس يستعيدون قصة عنز الجبل بعد العشاء الدسم . وعنز الجبل تخرج من فم الخالة السمينة البيضاء بعد أن ينطفئ المصباح . في الظلام لانتذكر إلا ذلك الفم . نتعلق به ، نجفل ، نقفل النوافذ برعب يجمد أطرافنا ، يغتالنا النعاس ، نحلم بالعنز وهي تعود إلى البيت المهجور ، نتمنى أن يخرج ذلك الثعبان . نتمنى أن يلتف حول عنقها ، يخنق تلك الحنجرة التي ملأتنا هلعاً . هل يخرج ذلك الثعبان ؟ ولمن يترك جوهرته التي يحرسها ؟ فجأة . . يصحو من نومه ، هدوء ثقيل ، صوت الأنفاس وشخير متتالٍ يضفي إيقاعاً ليلياً يشعره بالحياة . الله يأخذ عقلك . سمع صوت انسكاب الماء أدرك أنه وقت متأخر ، القدم ترتطم بالتنكة التي أفرغت مافي جوفها فوق جسد مبتل بالعرق . هكذا تخيل زم شفتيه ، ابتسم ، سحب الغطاء فوق وجهه ، أغمض عينيه ، تذكر الطير ، الوادي ، أشجار الحماط . تذكر اشتهاءه الذي لم يستطع أن يغالبه حين نمت في عروقه رغبة أن يرى قربة الماء تسقط من فوق ظهر دامسة ، أن يدهمها الماء . تصور كيف يمكن أن تكون دامسة بدون القربة منتصبة دون انحناء . لم ينم كما ينبغي . نظر إلى وجه أمه وهي تعد القهوة لأبيه بعد صلاة الفجر . وحين تلاقت نظراته بعيني أمه أدرك أنها تخفي شيئاً . نظر نظر إلى الوجه الصلب الذي يحمله والده . حين شرب الأب فنجان القهوة الساخن . التفت إلى الأم وقال بصوت ثلجي : دامـسـة ! ! . التفت الابن والأم إلى الوجه الصلب بشعورين مختلفين ، شعور بالطاعة العمياء ، وشعور اختلط فيه الأمل بدهشة من يعرف أن سره انكشف ابتسم ونظر إلى الوجه الصلب : – أقول دامسة توفقت وجاء لها عريس من أبها . منذ تلك اللحظة وهو يصعد بعد كل غروب إلى منتصف المسافة نحو قمة الجبل ويصيح بأعلى صوته : دامسة . فترد عليه عنز الجبل : دامسة . دامسة .
0 تعليق