مملكة الوجه

24 نوفمبر، 2011 | دامسة | 0 تعليقات

كنت أسمع .. لا أتحدث .. إلا أنني أرى .. عفواً فهذه مقدمة بسيطة لكي أصف لكم وجهي .. قالت لي واحدة منهن : إنك قبيح أكثر مما تظن .. ابتعت بعد كلامها مباشرة مرآة صغيرة .. تذكرونها ذات لون أحمر يسر الناظرين أو أخضر يسر .. أو أزرق يسر الناظرين .. يحملها عادة من لايرى وجهه .. خرجت من قريتي وكلامها يتتابع في خاطري .. ( ويا ونتي ونة حسين بن

عبود شاف الصبايا ، واقحم الثور في البير .. )لم أكن حتى تلك الساعة أعرف وجهي معرفة يقينية … أعرف تلك المعلومات الأولية .. كأن يكون وجهي يحمل أنفاً واحداً .. والأنف يحوي فيما يحوي فتحتين لاستقبال الريح وتوديعها .. وكأن يكون يحمل لساناً لايهدأ داخل كهف أحمر ، هذا الكهف مملوء بالرطوبة ومجموعة لابأس من الأسنان البيضاء .. هذا اللون الأبيض ليس له علاقة بقسوتها الفعلية ولذا فإن اللسان معرض تماماً وبلا سابق إنذار لأن يفقد وجوده وفعاليته بسبب غلطة لن يكررها . وعلى الرغم من أن وجود اللسان سابق لوجود الأسنان إلا أن هذا الزمن لايعني أبداً بأسبقية الوجود وأسبقية الفعل الإيجابي ، وحيث أن اللسان عضو من الأعضاء المزعجة لكبار السن والمقام ، لكل ذلك من قبل ومن بعد فإن مجتمع الأسنان هذا لايحمل أية قيمة لهذا العضو المشاكس في مملكة الوجه . عرفت بعد ذلك أن وجهي يحمل فيما يحمل من نوافذ ، نافذتين أطل بهما على العالم ، وانني أحمله وتلك كذبة كبرى .. حين يقال : أن فلاناً يجمل وجهه . أعترف لكم أن وضع الأذنين خارج منطقة الوجه إنما كان في حد ذاته مسألة أمنية حين تقابل وجهاً آخر ستقوم العينان بفعلها المباشر .. ستتعرفان على لونه وطوله وحجمه ، ماذا يلبس ؟ كيف يأكل ؟ ماذا يشرب ؟ أين يقضي عطلة نهاية الأسبوع .. ونهاية الشهر .. ونهاية السنة .. ونهاية العمر ؟ تتعرفان عليه دون أن يسقط بينكما حديث ، دون أن تشعر بالحرج أو التقاء الفعل ، أعترف لكم أن وضع الأذنين خارج حدود الوجه مسألة أمنية . سيدلك أنفك على رائحة الوجه القديم ، ستداخلك الطمأنينة حين تشم رائحة الإبل والغنم والأسماك ورائحة النخيل ، ستعرف أن الوجه يطالب كحتمية الروائح بمطالب محدودة وأساسية .. قطعة أرض .. شجرة .. بعير .. أو قارب .. ستعرف أن الوجه يدفن موتاه في داخل التربة ويسمع أغنية حزينة ، ويتمايل حين يسمع أغنية تنشله من هم لازق .. ستطمئن كثيراً فأنفك لم يخنك ، ستعجب به كثيراً وتطلب من صديقك الفنان أن يرسمه .. انحناءة الخط .. زاوية اللقطة .. لعبة الظل والضوء .. سوف تعلق الصورة فوق مساحة وجهك تقديراً له وتمضي ، ستطمئن قليلاً .. سوف يساورك لحظتها قليل من الشكوك به حين تشم رائحة سيجار وعطر غريب وأحاديث شقراء اللون والطعم والانتماء ، إلا أنك خلال هذه المرحلة من بين ثنايا هذه الوجوه تتذكر رائحتك القديمة ، ستذكر الإبل والأغنام والأسماك ورائحة النخيل ، يهدأ خاطرك قليلاً .. ستفكر في طفلك .. كيف ؟ لن تعرف شيئاً . يهدأ خاطرك وتألف رائحة الوجه القبيح .. لازلت أكرر لكم مراراً أن وضع الأذنين خارج الوجه كان مسألة أمنية بحتة . عرفت صديقاً تعطلت لديه أجهزة السمع أتعرفون كيف هو الآن ؟ وصل مرحلة الأمان وافترشت بقية أعضائه شاطئ الثقة ، يبادر الآن بشرب الشاي بلذة متناهية ، يناقش الأشياء حتى الخطيرة منها وفي فمه لبانة .. هل المسألة لديه لها علاقة بعطلها المفاجئ لست أدري .. دخلت به ، أقصد وجهي ، كان قبالتي .. المكان مملوء بالناس وبالوحشة وبه .. المسافة بين وجهي وبين مقعده طويلة جداً ، قيل لي : إنه قبل أن يجلس استشار ، وقبل أن يضحك استشار ، وقبل أن يتحدث استشار ، وقيل له  : إن المسافة الزمانية والمكانية تمنحك قراءة القادم بوجهه .. هاهو يراقب تعابير وجهي .. كيف أبدأ الدخول بقدمي اليسرى أو بالأخرى . مسحت عيناه وجهي ، كان وجهي حليقاً فوق شاربي قليل من دهن العود ، نظر إلي حين وصلت . لم يمد ذراعه كاملاً التقطتني أصابعه ، وقال في سره : استرح ، ارتبكت حين لم أسمعه وخمنت حين أجلس أنه سيعرف أي منطقة اخترت ، وهو يعرف أنني أحمل فيما أحمل من أدوات الدفاع والهجوم وجهي . حينذاك حدثني على هذا الأساس .. انحنيت مستأذناً وقال : زرني مرة أخرى .. لم اقتنع ولم أفكر بزيارته . حين دخلت إليها ، بطبيعة الحال كنت لحظتها أحمل وجهي سرت به ثلاثين عاماً . عرفت خلالها وجوهاً كثيرة ، كان همي الوحيد أن أعرف موقع الأذنين بالتحديد يزعجني أن أرى وجهاً ملثماً لاتتضح ملامحه ويداخلني الشك . وهنا يربض الخوف ارتبكت تماماً .. فأر صغير أسود اللون مر من بين أقدامي .. تذكرت ساعتها أنني أمام ابنتي وأن التلفزيون يعرض فيلماً عن ( السوبرمان ) ابتلعت ريقي ، دخل الفأر بشكل انتحاري إلى فم القط الرابض .. لم استطع ابتلاع ارتباكي .. لم أجد ماأفعله قفلت التلفزيون .. امتلأت عيون ابنتي بالدمع .. خرجت تخيلتها تصيح يعيش السوبرمان .. وتسقط القطط .. وتسقط الفئران . حين تباغتني .. أنبت مثل الدهشة الأولى تلج الفؤاد .. التفت إلى وجهي بين أصابعها الرقيقة .. وجدت وجهي .. قبلت كل مداخل وجهها .. أغفت قليلاً .. وقفت أمام عينيها طويلاً .. وحين اطمأنت واطمأن القلب .. سمحت لها بالدخول وعانقتني .. الساعة الآن تشير إلى الثانية والنصف الليل يفترش النيام يصبغ كل الملامح بالهدوء بالرضا .. بالسكينة والحذر ، حملت وجهي وخرجت من ملامح من أهوى وعدت وحيداً .. ( الليل يطبق مرة أخرى فتشربه المدينة والعابرون إلى القرارة مثل أغنية حزينة ) ، صوت يفاجئني ، ورائحتها تلفني ، تستقبل الصوت أذني ، تتأكد الهاتف أذني الأخرى يصدر الأمر .. قف .. ووقفت .. تذكرت إني لاأحمل غير بطاقة صفراء وعود من الثقاب ، وأبيات من الشعر ، وشريط أغنية تقول : لا .. عشر من الساعات تبحث عن سكن .. وعشر من الساعات ، تبحث عن وجوه لاتخون .. وثلاث ساعات تبكي وحيداً وشريط أغنية للساعة الأخرى .. اسفنجة هذه الساعة لكن لامناص .. قف .. وقفت .. تذكرت أخي .. تذكرت عوداً من الريحان والكادي وأزهار الجبال .. وامرأة تمد يدها بالسؤال .. ولاجواب .. رثيت لها ومن يرثي لحالي ؟ فتشت لحظتها لم أجد إلا فؤادي فوهبتها إياه .. صمتت طويلاً .. قالت : ” تعيش ” وعشت لكنه قال ” قف ” .. لمحت وجهاً .. خفت منه بادئ الأمر .. أطلق النور في وجهي .. لم أره وشممت رائحة الأغنام والأزهار وقافلة الأباعر . قال لي : من أنت ؟ قلت له : أنا أنت .

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *