ص . ب

24 نوفمبر، 2011 | دامسة | 0 تعليقات

في العربة الصغيرة ازدحم العمال بجانب بعضهم البعض ، اتخذ كل واحد منهم مقعجه على الأرض في حوض العربة  المغطاة بقماش أبيض ، بالكاد يتحرك الواحد منهم ليجفف العرق المتصبب منه ، أو بسحب يده التي داهمه الخدر في وضع لايتغير ، حتى أن البعض منهم يفرح بالمطبات التي تفاجئهم من حين لآخر لكي يتمكنوا من تعديل جلستهم . رائحة الهموم والدخان تزيد من حرارة تلك الغرفة التي تعبر الشوارع على أربع عجلات ، صمت يخيم على الجميع ، ورؤوس مدلاة اخترقها النعاس ، وعيون أخرى تغمض على حلم العودة للأهل والأصحاب ومن يحبهم الفؤاد . حين ودعها قالت له عيناها كل شيء ، وحين ودع أمه قالت ننتظرك بعد سنتين ، رفعت وجهها إلى السماء ، أدارت وجهها لكي لايرى دمعاً هارباً من القلب . حين نظر إلى قريته الصغيرة ، خامره شعور بالفقر ، شعور بالحزن العميق ، تماسك قليلاً أمام الصحاب وأمامها بالذات وحين ركض جسده بعيداً عنهم ، والوجوه الرماديه لاتأبه لحزنه . اختاره صاحب العمل ليكون عاملاً يجلب البريد صباح كل يوم ، يقوم بتوزيعه على العمال والمهندسين والموظفين ، استلم مفتاح البريد مساءً ، فرح كثيراً انفرجت أساريره ، لم ينم تلك الليلة فهاهو شهر كامل يمر دون أن يحصل على رسالة منها ، برر لنفسه بعد قريته عن أقرب مدينة يصلها البريد ، أو أنها لم تجد من يكتب لها ، زم شفته العليا ، قال لنفسه لماذا لاتبعث شريطاً تقول له كل شيء ، فقد يبلل صوتها حياته الجافة في هذه الصحراء . تذكر أن أهلها لايمتلكون جهازاً للتسجيل ثم إن صلتها به إنما هو سره الوحيد وبالتأكيد فهو طي الكتمان لديها . غفت عينه تلك الليلة ، الغرفة مليئة بأجساد العمال ورائحة الأجساد تزكم الأنوف  مالبث أن أفاق ، خرج إلى الحمام ، غسل وجهه رجع إلى ملابسه ، تحسس مفتاح صندوق البريد وحين عثرت أصابعه عليه هدأ قليلاً ، مسح بنظره على الوجوه المتعبة لها لون واحد ، ولها حلم واحد سمراء ، ولوحتها شمس الغربة . استيقظ قبل الجميع ، هبط إلى الشارع ، دخل المطعم الصغير ، لم يعره الصبي الذي يعمل بالمطعم  انتباهاً سحب كرسياً وكانت الطاولة طويلة جداً تذكر طاولات الجيش ، وضع أمامه طبق الفول ، تعود أن يأكل بصلاً ، نحاه جانباً ، بعد أن انتهى دفع الحساب ، عاد إلى الطبق أخذ عودين من النعناع ودفع بهما إلى فمه . حين دخل إلى السكن ، فتح حقيبة ملابسه  اختار من بين تلك الملابس أحلاها في نظره ، ارتداها ، وضع قليلاً من العطر فوق ملابسه ودلف إلى العربة ، حاول أن يكون في مقدمة السيارة ، عاب على نفسه أن يبتعد عن زملائه الآخرين لكن شعوراً بالفرح غمر كل ذلك قال في دخيلة نفسه سوف أجلب لهم الفرح كل يوم ، ثم هز رأسه مراراً وقال لنفسه ربما ليس الفرح فقط . هز كتفيه ودخل إلى مقدمة العربة ، حين وصل إلى المكتب ، غاص في كم كبير من المعاملات يوصلها من مكتب إلى مكتب ، قال له المسؤول حين تبدأ صلاة الظهر اذهب إلى مقر البريد واحضر الرسائل هز رأسه بالإيجاب والفرحة تكاد تطيح به لولا قليل من تعقل مصطنع ، لم يكن مقر البريد بعيداً عنهم وحين ارتفع صوت المؤذن خرج لايلوي على شيء وصل وجد الأبواب مغلقة دخل إلى المسجد ، وحين انتهت الصلاة اتجه إلى البريد كان يهدئ من خطواته يقنع نفسه بأن لاداعي للعجلة  ، أعرفه ذلك المظروف الطويل بحوافه الزرقاء ، وتلك الصورة عليه لطائرة كان كلما شاهدها يحلم بالسفر وهل ستكون الرسالة من ورقة واحدة أو أكثر ماذا يمكن أن تقول لي ماذا ستصف ، وهل هناك من تغيير في تلك القرية الصغيرة حيث لاشيء يتغير إلا بعد قرون من الزمان . آه ربما تحدثني عن مشاعرها ، أحاسيسها ، هل افتقدتني ؟ هل ستحدثني عن أمي عن أصدقائي ولماذا انتظر خطاباً منها هي بالذات سوف يرسل إلي الأصدقاء رسائل كثيرة وأمي واخوتي . أعرفها هذه الصناديق الصغيرة سوف تملؤها خطاباتي أنا فقط فكيف بريد لشركة عملاقة مثل هذه وصل الموظف ببنطاله الأزرق ووجهه الناحل غير المبالي بانتظار الناس ، فتح الباب وابتلعهم المبنى ، سار بهدوء مفتعل كان صندوق البريد في الصف العلوي بالكاد يمد يده يخرج الرزم ، يخرج أوراقاً صفراء بريد آخر رسمي ، مد يده بقدر استطاعة جسده الناحل القصير ، يده لم يلامسها شيء سوى برودة حديد الصندوق والهواء القادم من الخلف . كمية هائلة من الخطابات لم يستطع إخفاء فرحته ، وفي مكان رحب وضع الرسائل والمغلفات وأخذ يفرزها واحداً واحداً ، حشد من الخطوط المتباينة بلغات مختلفة ومغلفات حبلى بالأوراق ، كلما أوشك على النهاية ابتلع ريقه ، أحس بالعطش ورائحة الخيبة بدأت تتسلل إلى جسده لتفرز رائحة الانفعال ، ربما تكون ضمن هذه الأوراق الصفراء حين قابل الموظف بوجهه الصارم تمنى أن يبتسم ، أن يضحك ، أن يبكي لكن شيئاً من ذلك لم يحدث ، وقال له الموظف بصلف وقع هنا وهنا وهنا . خرج وقليل من البكاء يتحجر في العينين ، ضم الرزمة على الأرض ، التفت يمنة ويسرة لم يشاهد أحداً ، تراجع إلى الخلف قليلاً  بعد أن فتح باب الصندوق ثم أخذ يقفز إلى الأعلى مرات عديدة لكنه لم يشاهد سوى أرضية الصندوق وضوء الشمس الصادر منه . أغلق الصندوق ، دخل الشركة ، هاهو الشهر السابع يمر وهو على هذه الوتيرة ، قال له رئيسه لماذا لاترتاح قليلاً في البيت ، إن شعوراً لدي بدأ ينمو أنك مرهق وسوف نعطي مفتاح الصندوق لشخص آخر ، صرخ على غير عادته لا ، لا أنا المسؤول عن هذا الصندوق أنا المسؤول ، كان الموظف كبيراً في السن طحنته التجربة ، قال له لابأس هدئ من روعك ، إنها مجرد فكرة . أدرك في لحظتها بأن تعب الانتظار الطويل ينهمر عليه في تلك اللحظة . صبيحة أول يوم في الشهر الثامن لبس ملابسه فوق بعض ، بعد أن مكث في المنزل ثلاثة أيام لايحدث أحداً ، لايأكل ، لاينام . دخل المطعم ، طلب الفول ، أ كل بصلاً كثيراً وكأنه يعوض به مافات . أخذ عود الريحان يقطف أوراقه ورقة ورقة . في العشرة صباحاً دلف إلى مبنى البريد أخذ المغلفات والأوراق الصفراء ، نبش عن رسالة واحدة تعيد له توازنه ، لكن لافائدة ، داخل السور ، نظر إلى غرباء يتزاحمون عند كبائن الهاتف ، يرفعون أصواتهم ، تصلهم روائح الأهل والأحباب ، ينظر إلى رزمة الرسائل التي لاتخصه ينبت من ثناياها شوك يلهب يده ، الجو الخانق ، وأفق مملوء بغبار الصيف وأسى مرير يحوله إلى حطام أخرج مفتاح صندوق البريد ، أدخله ضمن مغلف كبير ، وضع الرسائل فيما يشبه الكومة الكبيرة أخرج عود ثقاب وأشعل النار في الرسائل وعاد إلى عمله .

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *