أمغريبة

24 نوفمبر، 2011 | دامسة | 0 تعليقات

في لحظة ترددت أن أكتب . عمن ؟ لاأعرف . إلا أن اللحظة المشتهاة وهبتني نفسها في لمح البصر . وكان علي أن أختار بين أن أقدم على ما كرهت أو أحجم عما تمنيت فاخترت الأولى .. قيل لي لابد من أن تقوم بالتخطيط بهدوء . أن تحدد الزمان وأن تبسط للمكان مساحة كافية لكي يلتقط الآخر معرفة مشوبة بالفن والقدرة على تحريك هذه العوالم .. هززت رأسي مرات عديدة . كنت أشبه مايكون بطفل تقول له أمه : لاتقرب هذه الحلوى . ينكس رأسه انصياعاً إلا أنه في الوقت نفسه يبتلع ريقه . يغمض عينيه فلا ترى في ظلامها الدامس إلا وهج تلك الحلوى. فجأة نظلرت إلى أصابعي لفترة طويلة . طالت حتى كدت أشك فيما سيؤول إليه حالي . كنت أشبه بمن يحادث نفسه . كم من كلمة خرجت من بين هذه الأصابع ؟ ماهو لونها ؟ وهل خرجت فعلاً من داخل القلب دون خوف . ودون رجاء ؟ هل خرجت بيضاء كغمام أبيض يمسح رؤوس الأشجار الخضراء ؟ هل هطلت مثلما تهطل الأمطار على جبال السودة ؟ . السودة . . نظرت إلى وجه أمي . ووهج النار المنبعث من التنور يمنحها سحراً خاصاً . كم الثوب يرتفع فوق الساعد . والقرص الطويل يلتصق في جدار التنور الساخن . تغمض العينين . والدخان يملأ المكان . تمسح بأطراف أصابعها القرص من الأسفل إلى الأعلى . وبأصبع واحدة تحدث ثغرة صغيرة أعلى القرص . . سألتها : لماذا هذه الحركة ؟ هزت كتفيها إلى أعلى علامة عدم المعرفة . أردفت لحظتها بسؤال آخر : أين أبي ؟ قالت : يصطاد في السودة . لاأدري لم ألقيت بذلك السؤال إلا أن وحشة مفاجئة داهمتني . أحسست أن أقراص الخبز تفوق مايمكن لي ولها  أن نأكله . تذكرت أبي الغائب ونسيت أمي الحاضرة ، أما هي فلم تنس أحداً . . في ليلة ثانية . أرهفت السمع لأصوات غير معتادة . رفعت رأسي فإذا به يسد الباب بطوله الفارع . جذبت الغطاء فوق وجهي . فإذا بظلام أعمى . لكن ذلك كان غير مقنع بالنسبة لي . أغمضت عيني بقوة . حاولت قدر الامكان أن أكتم حتى أنفاسي . لم يتبق غير هذا السمع اللعين . *    *     * أذكرها صبيحة يوم الاثنين . قدمت لي جدتي ( السويق ) وكأساً من الشاي الذي تفيض رائحته بالنعناع والسكر ، انتحيت جانبا ، وأنا أنظر من خلال النافذة الصغيرة إلى الناس وهم على مرمى البصر ، متعة لايضاهيها شيئ ،أصوات الناس تختلط بأصوات البهائم وبالكاد تسمع جملة كاملة ، اوتلتقط عبارة .. لكنه إيقاع سوق الاثنين . فجأة سمعت صوتاً يبدو فيه رنة الرسمية .. ارتفع الصوت مراراً .. النار .. بدأت تخبو داخل ” الصلل ” . الصوت يرتفع : يابنت علي ، يابنت علي . حشرت جدتي جسمها داخل النافذة التي خيل إليها أن الصوت قد يبدو قريباً منها وقالت : خير . سمعت الصوت الرسمي : خير إن شاء الله يابنت علي . وعندما سحبت جسدها من النافذة ، وخرجت مسرعة من المجلس الكبير تأكد لي أنه أشار إليها بالنزول ومقابلته . شربت رشفة من الشاي أدفع بها لقمة ” السويق ” أصوات سوق الاثنين ترتفع والحركة في السوق لاتهدأ . دفعت بجسمي داخل النافذة وأنا أتابع الناس والألوان والرائحة والأصوات . بالكاد سمعت صوت جدتي وهي تنادي : سحبت جسمي من النافذة قالت في استياء : ألم تسمع ياولدي . ابتلعت ريقي وإذا بجدتي في وسط المكان وبجانبها امرأة بدوية جميلة ، وقد خالطت سمرتها حمرة طبيعية شفيفة . لم أقل شيئاً ، صورتها الجميلة لاتفارق المخيلة . ” ودك تسوق ” هززت رأسي وأنا أنظر إلى عينين سوداوين ولباس يشف عما تحته ، كان جمالها باهراً يملأ المكان . لحظتها لم أعرف كيف شعرت به ؟ أحسست بأشجار العرعر ، رائحة السمن ، طعم العسل مزج من احساس غريب . خرجت من المجلس ، لحقت بي جدتي ، اعطتني قليلاً من قمح وضعته في طرف ثوبي ، خرجت ورائحة السمن وطعم العسل يلاحقاني . ماذا تشتهي الآن ؟ حدثت نفسي وأنا أحمل ثوبي والقمح الذي منحتني إياه جدتي ، اتجهت يميناً صوب السوق ، ذهبت إلى صف من النساء كن يأتين من المشرق يعرضن الفاكهة بأنواعها ، مسحت بنظري الكثير منهن ، اخترت إحداهن ، حين دلقت القمح في الإناء المطلي بالقطران ، منحتني عنباً وتيناً ورمانةً واحدة . لم أبرح مكاني . نظرت إلي وقالت : خلاص أفلح ! . كنت أسمع الكبار يستزيدون من البائعات قلت بصوت بين الرجاء والأمر : ( زيديني ) صاحت بصوت عدائي : ” سبعة في الوجه كنه من زين حبك ” رائحة السمن وطعم العسل يعودان بي إلى المنزل . رأيت حصاناً مسرجاً يقف أمام البيت ، عرفت لحظتها أنه النائب ذلك الأسود الضئيل القصير بعض الشيء والذي كان يغضب من الضحكات التي تنطلق حينما يقترب من حجر كبير ليصعد فوقه عندما يمتطي الحصان . دخلت بادرته بالسلام ، وبقع من دم التين والعنب يلون الثوب منحتني جدتي الشجاعة بنظرة باسمة من عينيها  لأضع الفاكهة في الإناء ثم انتحيت جانباً . دخلت إلى عالم من الصمت ، برغم إيقاع سوق الاثنين الصاخب ورغم صوت هذا النائب الذي لم يهدأ ، شعرت حينئذ برائحة السمن تغلق علي المكان وتجذبني إلى جزيرة بعيدة . قامت البدوية . ذهبت إلى” الملهب ” فإذا برائحة الريحان والكادي والحناء تملأ المكان بشذى وحشي . قال النائب : يابنت علي ، حافظي عليها إلى أن ينتهي السوق ، أتدرين ماذا فعلت ، لقد أربكت السوق كله رجالاً ونساءً ، حتى ( العُقال ) وأخبريها ألا تعود إلى السوق مرة أخرى ، يكفينا مشاكلنا . كنت أنتظر عودتها ، وحين أخذت الأصوات بالتلاشي وعاد الرعاة بأغنامهم . وسقط الليل على القرية . وحين كانت جدتي تهز ” الدبية “والفانوس يلقي بضوئه الباهت على كل شيء . كنت مأخوذاً برائحة السمن التي تملأ المكان وطعم العسل في آخر الحلق . قالت جدتي : هل تعرف ما اسم هذه المرأة التي أربكت سوق الأثنين ؟. لم تنتظر إجابتي , قالت وهي تضج بالحسرة والأسى : اسمها ” امغريبة “.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *