( 1 ) هاهي الذكريات تأخذ مداها .. تتسع الرؤية حتى ليخيل إلي عدم القدرة على التقاط الصورة بمفردها .. تنهمر واحدة بعد أخرى .. تضيق الؤية .. أشعر بأنفاسي وهي تخرج من أنبوب متناهي الدقة بالغ الضيق . هاهي الذكرى ، ترسم خطوطها .. تضيف اللون للمساحة .. وهاأنا ألتقط التفاصيل شيئاً فشيئاً .. خذ بيدي أيها الذهن .. اقتنص تلك اللحظات لحظة
دخول أبي .. البيت الطيني ورائحة المدينة الصغيرة تنفذ إلى جسدي .. إحساس بأمن موحش .هاهو الصباح .. رطب كعادته .. الحركة تهدأ داخل المدينة .. الناس إلى أعمالهم .. مزارعهم .. متاجرهم . كان فنجان الشاي قد أصبح بارداً . – يامسعود لقد حان الوقت لنطهرك يابني . التفت بسرعة . أبي يقف مثل جبل . سد الباب بجسمه الكبير يخيل إلي في تلك اللحظة أن والدي كان ضخماً في كل شيء حتى في صوته .. أوامره .. رغباته .. فرحه .. ضحكته المجلجلة ، غضبه المفاجئ وصمته المحير . – حان الوقت وأنت الآن رجلاً .. و .. آه أيتها الذكريات .. إلا الخذلان .. هاهي الصورة تغيب .. تغيب هناك في أعماق الماضي .. القصيدة .. الرمح .. الرقص .. النساء وحدائق الريحان فوق رؤوسهن .. رائحة الكادي يعبق بها المكان .. خالي يقف بوجهه الصارم . اغتصب الآن الابتسامة من داخل ذلك الجرح .. انهمري أيتها الذكريات .. المئزر الجديد وأبي بكامل زينته . أعمامي بملامحهم الجادة .. عيناي تمسح الوجوه .. كنت أبحث من خلال هذه الوجوه المتراصة عن وجهها .. عله يمنحني الدفء .. الشجاعة .. لم أستبنه .. دقات الطبول ترتفع قليلاً .. قليلاً .. تهدأ ثم تعاود مرة أخرى .. الإيقاع يدخل دمي .. القصيدة .. الرمح .. الإيقاع يزداد توتراً . بدأ الإيقاع يخفت شيئاً فشيئاً .. الزغاريد تنطلق .. مئات من طلقات البنادق تشق السماء .. لازال الإيقاع مستمراً هاهو يأخذ طريقه إلى ساقي المليئتين بالدماء .. انتزعت طرف الرمح من بين أصابع قدمي .. لم يلحظ ذلك أحد والدماء في كل مكان . جروحي تنزف لكن لابد من الرقص لابد من الرقص .
( 2 ) كنت أعرف تماماً .. قل أعرف مسبقاً .. قل أعرف بالتجربة .. قل صعقت بالأمر الواقع . ذلك أن الأمور لاتجري كما نشتهي . . أيها الصديق لقد خنت التعبير .. خذ مايروق لك حسب حالتك النفسية . الاجتماعية الاقتصادية .. عرفت .. والإحالة على ماتقدم .. أين تلك .. النحلة المجنونة .. هل قلت المجنونة . أقدم اعتذاري ، حاولت أن أكون محايداً أكثر من مرة إلا أن الفشل كان من نصيبي ، معذرة سأعود لتلك النحلة المجنونة .. تكرار مفيد لبيان الحالة المتأصلة في الداخل .. أقول مع سبق الاصرار والترصد : تلك النحلة المجنونة التي تبحث عن زهرة .. هل سمعت الصوت الصادر عن النحل .. تلك مرحلة من مراحل الاشتهاء المفزع .. هل تابعت الحركة الراقصة للنحل .. لاأخفيك سراً أن السائل ليس أعلم من المسئول .. معكوسة هي الأشياء . أي شيء في داخلك .. خارجك معتدل غير ذلك التمثال للعدالة العمياء رائع ذلك الذي عصب عين العدالة . معذرة للمرة المائة .. سأعود لتلك النحلة المجنونة .. قلت لها بصريح العبارة : ” ياسيدتي النحلة .. أنا مسعود .. أميرتي النحلة أتمنى العسل الأسود ” . قلت ذلك جزافاً .. قلته سخرية ، لكن النحلة قالت : عسل ؟ أتملك قليلاً من هيل .. أجبت بسرعة : ” أملك ” قالت لي : ” جبان ” قالت : ” أتملك قليلاً من شجاعة ” ، قلت لها : ” لاأملك ” قالت لي : ” شجاع ” . أصابني الوهن .. الإعياء . قالت لي حين قاربت الشمس الغروب : ” من يملك الأرض ، الحقل ، الماء ، من يملك الحزن ؟ ” لم أملك جواباً وحين حاولت البوح قالت لي : ” كفى ” . هاهو وجهها يطل من بين الصفوف .. آه أيتها الأرض كفي عن الدوران .. كوني ثابتة تحت قدمي الحافيتين . برودة رمل الوادي تخفف حرارة الإيقاع المثمر في دمي . وقفت ثابتاً .. شاخصاً نحو السماء .. فرجت مابين ساقي اقترب ” الخاتن ” بخطوات يمنحها الإيقاع بطئاً مضاعفاً .. – لاتبلع ريقك .. لاترمش بعينك .. لاتحرك أصابعك الممسكة بالرمح .. لاتحرك أصابع قدمك النابتة من داخل الأرض ، لا . لا . لا .. الخاتن يقترب شيئاً فشيئاً .. – حين نصرخ بك .. أغرز رمحك في الأرض .. لاتتحرك ..تذكر أعمامك .. خالك .. تذكرني يابني .. تذكر والدتك .. مسعود لاتخذلنا يامسعود . الصرخة التي اقتاتت على أعصابي انتظاراً وترقباً تنبثق من خلال الإيقاع الذي ازداد توتراً .. رفعت الرمح .. وبكل ما أملك من قوة .. من حزن .. من خوف .. من فرح .. من ترقب غرزت الرمح .. والرمح يختار قدمي .. ينفذ الرمح .. ينغرز بين أصابع يدي اليمنى .. ألم مرعب .. لايطيقه بشر . الدم ينبجس .. يغطي قدمي .. الإيقاع يتعالى وأنا ثابت رغم الألم .. رغم الحزن .. أبي .. عمي .. خالي .. أمي ، وجوه تضيق علي المكان .. تحاصرني .. تناشدني الاحتمال .. يأتي وجهها يفك الحصار .. يمنح البسمة ، والرضى .. الإيقاع يتعالى .. أحس العروق في مختلف الجسد تكاد تنفجر .. الخاتن يقترب .. يمسك بطرفه المربوط منذ الصباح الباكر .. ضوء الشمس ينعكس من تلك الشفرة على عيني .. الضوء يبهرني .. في تلك اللحظة شعرت بحبات العرق باردة تأخذ طريقها إلى عيني الشاخصتين باردة مملوءة بملح البحار .. كان طرفه شبه ميت .. أزرق يميل إلى السواد بعد أن حجزت عنه الدماء . غاب الضوء الباهر .. بين فخذي انهمر الدم دافئاً لزجاً .. الألم ينتشر في كافة جسدي .. نظرت إلى الوجوه هاهي الآن دافئة لزجة .. أليفة تعبر البسمة من فوقها فيما يشبه الانتصار . أيتها النحلة المجنونة : تمنيت العسل الأسود ، حين قفلت منهزماً ومنكفئاً قال لي الطفل الصغير : خذلي من المصرف حليباً وخبزاً .. خذلي من المصرف أغطية وأفراحاً ، خذلي من المصرف لعبة شاهدتها بين الأصابع النظيفة ، تلك الأصابع التي ينكرها التراب .. تراب الأزقة .. أتربة الريح حين تدخل في الحلوق وفي المناخر .. تحيل الألسنة الرطبة أعواداً . ليتها تحمل في أطرافها الكبريت .. اشعل مسعود اللمبة في عشته الصغيرة بآخر عود من أعواد الكبريت . أرسلت اللمبة ضوءاً باهتاً . ملأ مسعود عشرة أقداح من قهوة . مرة واحدة .. كان مؤتزراً .. الحر يلهب كل شيء .. والبحر يبخل بما لديه .. كان مسعود يطارد تلك النحلة المجنونة في ضوء القمر .. أدرك أنها ستدخل العشة .. الرغبة تثمر في داخله بحثاً عن النحلة والعسل . تلك المرأة التي أنهكها السل .. ذلك الطفل المنتفخ البطن حين دخل علي ” السيد ” رفع صوته : لن ينفعك دواء لطفلك وزوجتك . دعك من دواء النصارى .. أليسوا ضدك في كل شيء فهل تنتظر منهم شيئاً يمنحك الحياة والعافية .. لن ينفعك إلا العسل .. عسل هذه الأرض .. هذه الأزهار .. هذه الأشجار . لقد شاهدها .. قيل أن من يمتلك ملكة النحل فإن العبيد سينقادون إليه زرافات ووحدانا . . هاهي من ذا الذي ينكرها تقف الآن على حافة القدح . . قدح القهوة السوداء المرة المذاق . كان عرشاً لهذه النحلة .. أخذ مسعود ذلك الضوء الباهت .. تأكد من موقع القدح .. وتأكد من موقع الملكة فوق القدح .. أبعد الضوء .. أخذ يكظم أنفاسه .. قليلاً .. قليلاً .. يسير فوق أطراف أصابعه ، ها إن يده تتجمد شيئاً فشيئاً .. ساعة الاقتراب من موقع العرش .. سقطت يده فإذا بالقدح العرش يسكب مافي جوفه فوق ألواح الخشب التي امتلأت بما تحويه أقداح سابقة .. مئات الأقداح . قرر مسعود أن يعمل في الضوء .. النحلة المجنونة لازالت تغريه بصوتها الصادر لعبيدها . وهاهم يحومون حول الحمى يثقلهم العسل .. ها إن المرأة ترنو للقمر وحمى المرض تثقلها والطفل ملئ بحمى الفقر والحزن . قرر مسعود أن يعمل في الضوء .. أدخل زوجته وطفله إلى داخل العشة .. كان لها منفذان ، الريح تصفر في الدخول وفي الخروج . مئات من صحون تصطفق بها الجدران الترابية عشرات من دوائر صغيرة وكبيرة يخنقها السقف .. والريح تلعب بالصحون . الريح تزداد ومسعود بالضوء في يده اليسرى يلحق بالنحلة من قدح لآخر . العيون تلحق بالضوء والقدح المسكوب والصحون تصدر من خلال الريح أصوات الجنائز .. الليل قرر التهام العشة والنحلة والأجساد . الريح تلعب بالنار ، والنار تحرق كل شيء . خرجت من خلال الكف التي أشعلتها النار نحلة سوداء . الرعب يمتلك الفؤاد وفؤاد نحلتنا رقيق .. بصقت على الكف عسلاً مصفى وكانت الريح والنار تلتهم البقايا . حين وصل رجال الاسعاف والنجدة والمطافئ اتفقوا للمرة الألف أمام أجساد فقيرة .. بخط ردئ كتب في المحضر : الجهل والإهمال .

0 تعليق