تقديم يحي حقي لمجموعة الخبز والصمت

28 أكتوبر، 2011 | قراءات نقدية | 0 تعليقات

أحب – بل يلزمني- أن أكشف لك بادئ ذي بدء عن موقفي من هذه المجموعة لأنه يمثل لي تجربة خاصة لم تمر بي من قبل ، ولأنه – فوق ذلك – يحملني على تأمل قضية فنية عامة لا يخلو بحثها من متعة ، قضية لقاء القاري بالنص الأدبي – هل ينبغي له – كي يحسن فهمه وتذوقه واستجلا أسراره وغموضه أن يلم من سابق بشيء من سيرة المؤلف فيعلم خصائص بيئته ونشأته وثقافته وعقائده في مواجهة المجتمع والفن وارتجاجات معاناته للحياة والعواطف ، أم ينبغي له – لكي يخلص له الفهم والتذوق صرفاً أن يهمل هذا كله ويطرحه وراء ظهره ليتفرغ أتم التفرغ إلى النص وحده ، باعتباره مخلوقاً له ذاتيته المستقلة التي يضر بها أن يضاف إليها شيء من خارجها وبخاصة إذا كانت هذه الاضافات نوعاً من الحكاية والنوادر المسلية التي لا تتورع أحيانا ًمن الانزلاق إلى نشر المثالب والفضائح وجوانب الشذوذ التي كان يعاني منها المؤلف ، سيفسد متعة القارئ ويزيغ بصره بحثه الدائب عن انعكاسات السيرة على النص.وقد مالت بعض مدارس النقد الحديثة – وخاصة في الفنون التشكيلية – إلى تحبيذ الرأي الثاني ، يريدون أن يكون لقاء القارئ بالنص لقاء مباشراً صميماً ، ثنائياً لا ثلاثياً- ووجدتني أحياناً أنجذب إلى هذا الرأي – بل أتطرف إلى تحبيذ لقاء النص دون أن يسبقه – وإن تطلبت أن يلحقه – قراءة حكم النقاد عليه ، إنني أريد أن أرفع عن القارئ كل وصاية وأمساك بلجام لا توقيراً لحريته ونضوج رشده فحسب – بل لأن حياده – في نطاق قدرة لبشر- هو عندي مفتاح المتعة حين يتم اللقاء بين شخصين يحدد سمتهما على الأرض زمان ومكان ، بل بين ذهنين مجردين يتلاقيان في سماء الرؤى وعالم الإيهام – وهذه هي لغة الفن ، ثم أرتد وأميل أحياناً إلى الرأي الأول وأنا واقف – مثلاً – أمام لوحة لفان جوخ ، سينتفي عنها التكتم وتفصح ، لن تبقى اللمسات بالفرشاة تسجيلاً لخطوط ، بل انتفاضات عذاب لابد أن يمس قلبك ، لن تكون وحدة الألوان انعكاساً عن الطبيعة بل انفجارات نفس كان لابد لها أن تحترق لأنها ملتاعة ظمأً وهياماً بالنور ، نور الشمس ، ونور أفق يشرق على الإنسانية بالصفاء والحبة والعدل . ولا نتنفس جو المرئيات المرسومة بل جو مأساة مزدوجة ، مأساة الانسان – قد كان – أمام القدر ، ومأساة الفنان الذي يريد أن يخلد ما هو زائل وأن يقلب العبور إلى دوام . لماذا ؟ لأنني قرأت مسيرته ونزلت معه إلى أعمال المناجم وهوة الجنون فرأيت لوحاته في وضعها الاستاتيكي ووضعها الديناميكي ، واجب أن أذكر لك أن لا تغني واحدة عن الأخرى ، اذن فمن المستطاع الجمع بين الرأيين وهذه ما استريح إليه اليوم. أعود إلى موقفي من هذه المجموعة التي سبق لي أن كتبت مقدمات لمجموعات من القصص القصيرة كثرت حتى أصبحت لا أعرف عددها وصرت موقع تندر ، فيقال كما يجلس العرضحالجي مأجوراً أمام باب المحكمة يتصيد كل داخل ، جلست متطوعاً أمام باب القصة القصيرة أفعل فعله وإن لم يكن يكن لي عذره ، وكان جزائي اتهاماً لي بأنني مالات الجميع ، أحياناً بالكلام وأحياناً بالصمت ، وأود أن أنتهز لحظتي هذه – فلعلها الأخيرة – لأبرئ نفسي من التهمتين ، علم الله أنني ما قلت إلا ما اعتقدت أنه الحق ، برفق ، وشتان بين الرفق والممالاة ، فعلت هذا لأنهم جميعاً من أصدقائي ، لا أقوى على رد طلب لهم ، معرفتي بهم وثيقة وزعمت أنني خالطت شعوري بشعورهم وحدست ولا أقول أدركت – لفائف أشواقهم وعذاباتهم فكنت – لكي أكتب المقدمة – كأنني قرأت لمؤلف وعمله في آن واحد ، أما اليوم فها أنذا – وهذه هي التجربة الجديدة – أكتب عن مؤلف لا أعرفه ، لم أقابله من سابق ، لا أعرف أي شيء عن حياته وانتاجه . لم أصافحه فأعرف من لمسات يده قدرته على الافصاح ، ليس لليد قناع كالوجه ، لم أنظر إلى عينيه لأرى مدى استقراره ونوع حياته ، لم أر ابتسامته لأعرف هل هي حلوة أم ممرورة أم مجرد قالب ثابت ، ولكني بعد أن قرأت مجموعته مرتين أصبحت أعرف الانسان وان جهلت شخصه وشكله ، برزت لي صورته بأتم وضوح وجلاء ، لم أعهدهما فيمن كتبت لهم وكنت أعرفهم أبعد هذا دليل على أن الاتصال انما يتم في عالم الفن ، عالم الرؤى والايهام كما قلت ، كيف حدث هذا ؟ لأن نغمة الصدق في هذه القصص بينة لامراء فيها الصدق من أجل الصدق وحده ، لم يصل إلى الصدق عن طريق الصنعة احتذاء بقواعد الشكل المقررة ، بل وصل إلى الصنعة عن طريق الصدق ، فالصنعة لا بد منها في الفن ولكن لا يزال الصدق هو السبيل الوحيد إليها ، إنه لا يؤلف قصة تصيداً لموضوع أو زهواً ببراعة سرد حكاية مسلية ، أو تلذذاً بالقدرة على الخيال ويظل مهموماً بالترتيب الزمني أو التشريحي لأعضاء القصة وانما لتنفيث هموم تمتلئ بها نفسه وتنهشه حتى تكاد تمضي روحه ، ومع الافضاء برء مخادع لأن الداء مزمن غلاب ، لم يقصد الترتيب فكوفئ في النهاية – بدلاً من التثريب- بأن واتته طواعية حبكة تقيم قصته في بنيان متامل منسق ، ينبع ويصب بعضه في بعض – حبكة لا بد منها لكل عمل فني . بيني وبين المؤلف – على التباعد – صديق مشترك ، هو الذي قدم لي هذه المجموعة ليصلني به ، فلما قرأتها عرفته ، وأحببت أن أبلغه سعادتي بلقائه لا بارسال خطاب بل بكتابة هذه المقدمة التي يعلم منها أن صوته قد بلغني . ومع ذلك لم ألح في السؤال عنه ، كل ما أعلمه أن هذه المجموعة هي أول أعماله ، وأنه من أبناء السعودية ، ويتبين هذا أيضاً من بعض الألفاظ المستمدة من اللهجة العامية السعودية ، اضطررت إلى التوقف عندها أحاول فهم معناها . قرأت هذه المجموعة بشعور مزيج من الاستعبار والغبطة الاستعبار لأنها ذكرتني بالقصة القصيرة عندنا أيام (المدرسة الحديثة) وكنت من تلاميذها ، نشأت بعد هبة مصر في أعقاب الحرب العالمية الأولى ، قالبها مستورد ، لاثراء الأدب العربي ومجاراة أوربا، كانت قصصاً واقعية اجتماعية ، مبعثها البحث عن التراث واستقلالها ، طلب اليقظة واللحاق بركب الحضارة ، كما كان يقال لنا منذ تلك الأيام وحتى اليوم كان هذا السابق لا لحاق به أبداً ، عطفها على الطبقة الكادحة ، ورجل الشارع – ما أحببت قط هذا التعبير – هو البطل المحبب اليها أحياناً ترفعه إلى السماء وتمتدحه ، ايماناً به وأنفة له ، وأحياناً تخفس به الأرض ، بل تسبه أفحش السب ، غيظاً من تخلفه وجهالته ، لا تخلو من نزعة إلى الوعظ والارشاد وتتبع عيوب المجتمع بحيث يكون لكل عيب قصة تحاربه ، نظرتها إلى الخارج ، اهتمامها بالحدوتة ، ترتيب الزمن وأعضاء القصة محترم ، البطل فرد لا جموع ، ليس لها تريث عند الجو أو المكان لتكشف عبقريته ، أستاذة هذه المدرسة هم موباسان وشيخوف وبالأخص جوركي ، كانت هذه القصص رخوة ملساء ، لا تنغرس فيها أشواك ولا تشقها طعنات ، غير مؤذية ، ليس لها أنياب ومخالب ولا خرطوم بعوضة يخرم الجلد ليمتص الدم ، الجملة فيها سطر ونصف على الأقل ، الفعل والفاعل والجار والمجرور في مكانها ، طريقها معبد لا يتعثر فيه طفل يتعلم المشي ، الأسلوب يقود ذهن القارئ لا يطلب منه الوثوب لملء فراغ بعد حشوه لغواً والبركة في الواوات والغاءات وعند الاعتراض الذي لا يخفى موضعه ويعد حشوه لغواً لا بد من لكن وانما وبالرغم من … فالرابط بين الجمل فظي لا ذهني ، أسيرة البلاغة التقليدية ، لم تهتد إلى لغة خاصة بها تميزها عن لغة باقي فروع فن القول ، أكانت لها براءة البكر أم سذاجة الطفل؟ الاستعبار حين أسأل أين هي هذه القصة ؟ انتقلت من السوق إلى المتاحف ، قريبة هي منا جداً ولكن كأنها تردت في ماض سحيق ، عفا عليها الزمن ، فدورانه اليوم مفلوت العيار ، وأصبح للعصر الذي نعيشه قصته القصيرة إذا قيست بالقديمة قبل أنهما جنسان مختلفان وان انتسبا إلى أب واحد. والغبطة لأنني أحس مع هذه القصة القصيرة أنني أعيش عصري ، ومتحرك معه ، وهذا شأني مع كل المدارس الحديثة في مختلف الفنون ، وان كسرت مظاهر القواعد الموروثة ، أحمد لها صدقها في التعبير عن زمنها ، في هذه القصة الحديثة تضاءلت مكانة الحدوتة ، تركز الاهتمام على الشعور ، النظرة في أغلب الأحوال إلى الداخل لا إلى الخارج قل فيها التشبيه ، وكان بين المادي والمادي أو بين المعنوي والمعنوي فان مالت إليه جمعت الكل في قبضتها . كسرت ترتيب الزمن ، أصبحت أكثر جرأة على معالجة الجنس ، مأساتها الأولى اغتراب الإنسان ، الجموع لا الفرد هي البطل أحياناً {قصة السور ليوسف ادريس} وأحياناً هو المكان {السلخانة لاسماعيل ولي الدين}. ولكني أرى أن القصة الحديثة لا تزال تشق طريقها ولم نهتد بعد إلى القالب الأمثل الذي تستقر فيه . أمامها مشاكل لابد من حلها: أولاً : ما هو الحجم الأمثل لهذه القصة الحديثة ؟ ولأن صفتها الغالبة هي التركيز فلابد أن يكون الحجم صغيراً . فما أسهل أن يشاب التركيز بالغموض ، والغموض يسقى بالكستبان لا بالأكواب ، إذا طالت نفدت فقدت طابعها وميزتها ، وتتمثل هذه المشكلة بصورة أكثر حدة في الشعور الحديث ، إذا طالت القصيدة مالت إلى النثير ، ضاع أدنى أمل أن يقى منها في الأذن بعد القراءة شطرة واحدة ، ليت القصيدة تتألف من رباعيات منفصلة تتعاون على الافضاء أو الايحاء بالنشيد الذي يتردد في قلب الشاعر ، وفي يد الشاعر الحديث منشور زجاجي خاص به يعكس لنا ألوان الطيف ماذا هي غير التي نعهدها للأشياء ، وكاد هذا الخلط ينتقل إلى القصة الحديثة ولكن يبدو أن رغبتها في خرق المألوف لم تمتد إلى رؤية الألوان. ثانياً : نحن نعترف لها بحقها في العدول عن الجمل الطويلة إلى القصيرة ، أن يكون التعبير بلمسات مركزة خاطفة متتابعة لا تترابط بحروف الوصل ، فالمشكلة الثانية هي كيف نستطيع – وهي كما هي – أن نحتفظ للقصة بمطلب أساسي هو السلاسة والسيولة . فالقصة تيار متدفق ، حتى ولو على شكل أمواج مستقلة متتابعة ، ما نجده فيها الأن هو تقطع التتابع مع أن المطلوب هو تتابع يصنعه ولا يهدمه هذا التقطع ، فاسلوبها الأن ، كالطريق المملوء بالمطبات يتعثر في الرجل قبل الطفل ، النفس الممدود من رئتها الذي يحمل إلينا همسها أصبح سلسلة من الشهقات. ومما يزيد الأمر سوءاً أننا لم نقنن إلى الأن نظاماً لعلاقات الترقيم ، الشولة ، الشولة فوقها نقطة {شبه القطع} النقطة {القطع} النقطتان ، الاستفهام والتعجب والأمر ، وتتفاقم الصعوبة حين يهبط مستوى الطباعة ، فتفصل حيث يجب أن تلحم أو تلحم حيث يجب أن تفصل ، ما أشد حاجة القصة الحيثة إلى علامات الترقيم ، هي اليوم تحتاج إلى قراءة متأنية وكثير من الصبر . أنبهك منذ الأن ان هذه المجموعة ستطالبك بمزيد من التأني ومن الصبر على قراءتها كي تستطيع أن تتفهم معانيها وتتذوق جمالها . اذن كيف تستطيع هذه القصة الحديثة الجمع بين التقطع والتتابع ، ؟ إذا اتقد بموضوعها عند مولدها شعور المؤلف ثم فاض في تدفق لا يمكن قطعه ولا تقطيعه ، حينئذ يحس القارئ من تحت سطور التقطع اللفظي بتدفق تيار شعوري يتم بفضله تتابع السرد واكتساب القصة لصفة السلاسة والسيولة ، وهي صفة أساسية كما قل من سابق. ثالثاً : إذا قلنا أن القصة القصيرة – دون الرواية الطويلة – يدفعها طبعها وقالبها إلى الانجذاب لمحراب الشعر فتثري برؤى الهامة وتركيزه وقدرته على شحن الألفاظ بايحاءات مستمرة من معاناة التجربة ومن تراث عتيق – فإن القصة الحديثة – لأنها زادت تركيزاً – ينبغي أن تزداد انجذاباً إلى الشعر . لا إلى أوزانه وتراكيبه بل إلى روحه ومزاجه ، أتمنى حين تصل القصة الحديثة إلى اللغة التي تسلح لها وتستقر عليها وتميزها عن باقي فروع فن القول أن يكون الشعور من المنابع الدفينة لهذه اللغة . ان تكون بمثابة لحن سيمفوني ، متكامل ، يتعاون على تأليفه أنغام محلية جزئية ، متجانسة رغم تفرقها . لعلنا غلونا في الهجوم على السجع في نثر تراثنا القديم لأن أغلبه انحدر إلى الصنعة والافتعال فمال إلى السماجة ، أما السجع التلقائي الذي يتطلبه السرد ويقع في مكانه فلا عيب فيه ، ولكننا الأن نرفضه أيضاً ، فقد تحول الزمن ومفهومنا للبناء الفني . كان هذا السجع التلقائي يمثل اهتمام الفن العربي بالجزء لا بالكل ، الكل عنده مؤلف من تجمع أو تتابع جزئيات منفصلة ، لكل منها نغمته المستقلة تنشأ وتنتهي عندها .. المطلب الأن أن تتحرر هذه الجزئيات من استقلالها ويظل مطلوباً لها أن تكون لها نغمتها ، ولكن بقصد أن تتعاون على تأليف اللحن المتكامل الشامل للقطعة كلها ، أنني أومن أشد الايمان أن لا وسيلة للنهوض بجميع فنوننا – الموسيقية والتشكيلية والأدبية – إلا بتحول اللحن من التخت إلى هارمونية السيمفونية . وهذا ما اتطلبه للقصة الحديثة بعد أن قلت حجماً وزادت تركيزاً. عجبت حين رأيت أغلب اعتراضاتي عن القصة الحديثة قد خفت تحققت معظم أمالي لها في هذه المجموعة التي أقدمها إليك ، فهي عندي خير مثل ننشره لمحاولات الوصول إلى النضج . حجم صغير ، بل في أغلبها قصيرة جداً ، تركيز شديد لم يمنعها تتابع التقطع بسبب الجمل القصيرة المستقلة من تملك قدر لا بأس به من السيولة والتدفق. لحنها شمولي ، بعدها عن الافتعال فهي صادقة كل الصدق ، نبعت كما قلت من هموم تنهش المؤلف ، الألفاظ غير مستمدة من المعاجم بل تحمل بصمات المؤلف وشحن ةتعجب كيف احتواها قالبها . تجاورت كلمات تتجاور من قبل ، وتجمعت في اليد في نسق يبهرك اشتات لم تتجمع من سابق . ملك المؤلف أسلوبه الذاتي الذي يدل عليه ويميزه عن غيره ، وهذا هو أعز مطامح الفنان ليس هدفاً للتسلية بل تناول قضايا يبدو أنها تلح على المؤلف الحاحاً شديدا ً، سنراها فيما بعد – النظرة في الأعم إلى الداخل {اللون والصوت والحركة في الخارج ليست جميعها سوى صدى حقيقي لما نحس هنا في أعماقنا رقصة الخبز والصمت} . اهتمامها بالمشاعر إذن مثل أحداث العالم الخارجي. انها لا تريد اخبارك واعلامك بل رج شعورك إلى حد الايلام . الجموع لديها تتناوب والفرد دور البطل ، وأغلب الأفراد ليس لهم أسماء . يصل إلينا بوضوح من تحت السطور صوت انسان يحدثنا ، ندرك أنه يعيش في بيئة صحراوية ، برمالها وجبالها وسيولها ويعبرها . ولأن النظرة هي إلى الداخل فإن نصيب هذه البيئة من التعريق قليل جداً ، وكنت أتمنى للبيئة الجغرافية نصيباً أكبر من اهتمام المؤلف كانت أمامه فرصة ضيعها للالتفات إلى عبقرية المكان ، ان بروز البيئات المحلية المتباينة هو الذي يبني للقصة العربية رقعتها الفسيحة . وندرك أن هذا الانسان الذي يحدثنا – وليس هو المؤلف بل وليد خياله – صاحب نظرة فاحصة تزهو بقدرتها على التغلغل في النفوس يكشف أسرارها ، في أغلب الأمر يكشف عاهاتها ، أنه يكشف الانسان الخائف ، الانسان البخيل ، الانسان الأناني ، يكشفهم جميعاً ، هناك في داخله {قصة تموت وحدك} انه منحبس داخل نفسه ، في مواجهة ضغوط المجتمع وزيفه ونفاقه وتعاسته لا يجد هذا الانسان مكان يتراجع إليه سوى جخيلة نفسه وهو في انحباسه داخل نفسه لائذ بالصمت {ليس لك سوى الصمت وهو في كل الحالات التراجع الوحيد والهزيمة الفريدة التي لا يدركها الجميع ولكنها لا تحسب هزمية ولا تراجع .. الصمت .. الصمت.. ربما يكون في قليل من الاحوال منطلقاً لصرخة مدوية} {قصة الخبز والصمت} وهو يتعذب لهذا الانحباس فنحن لا نفقد الأمل في خلاصه . انحصر دوره في مراقبة المجمتع والأفراد بعين صقر الصحراء ، ثم – يالمأساته ؟ – لا يتمثل له الاتصال وممارسة الحرية إلا بارتكاب الخطيئة {نسجن أنفسنا ونتعذب من هذا السجن وله ، ثم نرتكب الخطايا ونظنها شاطئا ًأمناً ، نرتكب الخطايا ونبررها بأننا نعيش بألم . لم نكن نعرف اننا نمارس الهرب ونتوقف لنتعاود لذك من جديد {قصة تموت وحدك} في خارج أسوار الخطيئة كل محاولة للاتصال باءت بالفشل . الجسر – وهو رمز الاتصال- تحطم {قصة الجسر} والمرآة التي تعكس العالم تتحطم وتتهشم {قصة المرآة المخدوشة}. **** عرف هذا الانسان المتوهم – ولا عجب – كل الويلات التي يجرها عليه انحباسه داخل ذاته ، اضطراب نفسي وتمزق ويأس وتشاؤم شديد ، بل أنه يعاني من مركب نقص يتبادل فيه الانعكاس بين الدن والروح ويتمثل دائماً في اليد فهي أداة تنفيذ الارادة نراها مرة مصابة بمرض يشبه البرص فهي بيضاء {قصة لا يتفقون أبداً} وأحياناً مشوهة من آثار جروح قديمة {قصة الخبز والصمت} وهذا الشعور بمركب النقص هو سر فشله المزمن في الاتصال بالنساء . لا يثق بنفسه ويلجأ إلى السحر . ها هو ذا يريد أن يخطف قبلة من فم البنت إذا دق بابها فلا تخرج له الا أمها وشتان بين عجوز دردبيس وصبية {قصة خضراء} ها هو ذا في السوق يغازل بائعة فيكون جزاؤه علقة ساخنة {قصة المرآة المخدوشة} ما هي بضاعة هذه البائعة؟ .. من دلالات نضوج الفن في هذه القصص اختيار التفاحة للتجر بها البائعة . والتفاحة رمز لحواء والخروج من الجنة . حقاً لقد أعجبني لطف هذا الرمز. 00 وفي قصة الجوع كافر تتضح المجموعة بالجوع الجنسي لعل أبشع صور له نجدها في هذا الشحاذ الذي يريد أن يشبع شبقه قبل أن يشبع معدته {قصة الجوع كافر } ولكن الأغرب من هذا أنها تنضح أيضاً بالجوع الذي تضمر له البطن ونسمع عويلها . ثمانية بطون تطلب الأكل {قصة خضراء} قافلة كبيرة من الجياع تغزو المدينة ولا موت الا من الشبع {قصة نعيق الغراب الأبيض} نجده أيضاً في قصة بائع العرقسوس والجنادب ويحكى أن بل أنه عنوان قصة {الجوع كافر}. ماذا بقي إذن لهذه النفس الممزقة ؟ بقى له لحسن الحظ حساسية مرهفة ،تهتز أعصابه لأقل لمسة كأنها الوتر المشدود ، بفضل هذه الحساسية تنطلق المأساة إلى أبعد حدودها وأغورها ، ويتسع معها نطاق شعورنا لا أعرف وصفاً لمأساة الأب الذي يفقد ابنته الوحيدة أقسى ولا أفجع من هذه الصورة التي نقرأها في قصة {الطيور الزرقاء} ينطبق هذا القول أيضاً على مأساة بائع العرقسوس التي تمثل أقصى حدود الضياع واخفاق كل سعي وفقدان كل أمل في الخلاص . ولكن القضية الرئيسية التي تعالجها هذه القصص هي قضية مجتمع يقدم لنا هذا الانسان الذي نسمع صوته من وراء السطور في صورة مجتمع صحراوي ، معزول ، وسيلة الاتصال سيارة تأتي مرة كل أسبوع ، يعيش في كنف جبل تهبط منه السيول فتغرق الأرض ، تسود فيه الخرافات حتى الشاب المثقف يبيع كتبه ليشتري تميمة سحرية تعينه على لقاء حبيبته . مجتمع مستسلم راض بحياته رغم شظفها . الحياة فقر وعدم ولكنا لذيذة . ثم يأتي يوم تهب فيه عليه رياح من خارج حدوده ، من بلاد أجنبية تحمل إليه أفكاراً جديدة عليه . يأتي بها مرة رجل غريب يقدم إلى السوق ، يوصف بأنه مسحور وأن عينيه زرقاوان . ومرة فنان من أبناء المجتمع يعود من رحلته إلى البلاد الأجنبية ويعلق لوحاته على جدران متربة . واذا بهذا المجتمع يضطر إلى مواجهة أسئلة عديدة . أولاً : هل هو متهم بالجمود ؟ {معلبة في قريتي العواطف والأحاديث والغناء والسوالف. ثانياً : ما مبلغ ثقة هذا المجمتع بهذا الرجل الغريب أو بالشاب والفنان ، أليس من الخطر والحماقة أن يعجب المجتمع بهذا الرجل الغريب لا لشيء إلا لأنه غريب ، أنه يريد أن يفرض عليهم إرادته ويجبرهم على الطاعة ، اذن فهو قادم لاستعباد المجمتع طالما أن هذا المجتمع أقل منه شأنا ًومعرفة . هل يفهم الرجل الغريب هذا المجتمع حق الفهم ؟ ها هو ذا ينذر بنكبة : ان تندلق السيول وتغرق القرية فإذا بالسيل ينجلي عن طمي يحمل الخصب . كلام كثير – ولا فعل- يسمعه المجمتع من الرجل الغريب ومن الفنان ، أشبه بالقصائد العصماء . فيصرخ في وجه الفنان : الفن ترف ، علمنا كيف نهزم القحط ونهزم المرض . والسؤال الأخير : هل الحياة مع الجديد الذي يبشرون به هي اليوم أفضل . أم حياة الأمس هي الأفضل . والمجتمع لا يزال في حيرة ، يقول بمنتهى الصدق ان حياة الأمس كانت أحياناً أحسن وأحياناً أسوأ . إذن لا بد من استبقاء الحسن ورفض السيء الوافد من الخارج ، الا ترى أن أول تغيير طرأ عليهم لم يمس إلا الجلد ، ولم ينفذ إلى الأعمال ، الناس اليوم أكثر أناقة . ولكن ما هو الثمن الذي دفعوه من أجل هذه الأناقة . انهم أصبحوا أقل شجاعة عنهم بالأمس ، الداء كله في نظر هذا الانسان الذي يحدثنا خلال السطور ان المجتمع مستورد . دوره الوحيد مقصور على الاستيراد . وهذا عمل سلبي ، لابد له أن يتحول إلى عمل إيجابي ، ان يعمل على الاتصال بمنابع التيارات الوافدة ليعرف أولاً حقيقتها حال فعاليتها ، ان يخالطها ليقوى على امتلاكها لا على استيرادها فحسب . ليس في موقف الرجل الغريب القادم للسوق مأساة ، لأنه غريب أزرق العينين ، أما المأساة كل المأساة فهي مأساة ، ابن المجتمع ، الشاب الفنان الذي يؤمن أن الفن هو أقوى سلاح لنقل هذا المجمتع من الجمود إلى الحركة ، من الغيبوبة إلى الوعي ، فلا يكون نصيبه الا الصد والاعراض ويصاب بخيبة أمل تكاد تكون قاتلة . ونرى هذا الفنان في صورة أخرى وهو يؤمن أن لا فن بلا حرية ، وأن أبسط مظهر لهذه الحرية يتمنى أن يجده في مجتمعه هو قدرة الانسان أن يقول ولو مرة واحدة : لا ! حتى في وجه أبيه بجانبه أم لم تستطع طول حياتها أن تقول لا . السنا نجد في هذا المجتمع الصحراوي كما صورته هذه المجموعة خلاصة كل المشكلات التي تعاني منها البلاد التي يتجاذبها القديم والجديد . الأصالة والحداثة. *** هالني مقدار القتامة التي صبتها هذه المجموعة في قلبي . يكفي أن تقرأ مطلع قصة {يحكى أن} حتى تصدقني ، بدلاً من الأمل الذي يرمز له بازدهار زهرة مرة كل عام .. إذ بنا لا نرى إلا زهرة تذبل مرة كل عام ، ماكل هذا اليأس . ومع هذا قبلت هذا كله ، ورأيت هذا الصوت الذي يحدثنا عبر السطور يؤمن أن الانسان لن يقدر النور حق قدره ويعشقه إلا إذا دفعته يد ليسقط في أعمق الآبار المظلمة، إلا إذا قيدته بالسلاسل التي تدمي معصميه ليدرك بعد حلها معنى الحرية . ليس التبيشير مقصوراً على اعلاء شأن الفضائل بل على ذم الرذائل وابرازها في أشنع صورة . ان نعيم الجنة يتراءى لنا في أتم بهائه إذا قرأنا وصف الجحيم وهول عذابه ، ولا عجب فان هذا الصوت يأتي من بلاد تؤمن بأن آخر الدواء هو الكي . *** كم أتمنى لهذه النظرة المنصرفة كل الانصراف للداخل أن تتحول – ولو نصف نصف- إلى الخارج أيضاً ، فتتجلى لها الطبيعة والناس غير محرومة كل الحرمان من بهاء الصورة التي فطرهم الله سبحانه عليها . أتمنى أن لا يكون اثر الاحتجاج صرخات حنق مولولة ، لم لا يكون بدلها ابتسامة تعجب أو دعابة من عبث الأقدار وقسوتها ، لم لا نترك للأمل بابا ًولو موارياً . هذه شمية نفس حرة أبية متلهفة على الخير والعدل والطهر والسماحة . تأبى النفاق والحلول الوسطى . لا ترضى بالحسن دون الحسن . أمالها تطلب الحدود القصوى وترفض حكم الواقع وطاقته ، لأنه عجز وتسليم . أنها تئن أنين الثكلى حين ماتت في القلوب أنشودة الالفة الأبدية على حين يفرق بقية الناس في اللهو والأكل والشرب والنوم. انني واثق أن المؤلف سيحقق أملي فيه ، فهو يثبت لنا في قصته الاتجاه شرقاً أنه قادر على أن ينطق هذا الانسان الذي يحدثنا من خلال السطور بالإيمان بالحياة والخير وقيمة الجهاد لنصرة الحق. لا أدري كيف أشكر صديق الطرفين البعيدين على تعريفي بهذه المجموعة التي رجتني رجاً عنيفاً أخرجني من ركود واعتكاف أنني أستخسر حقاً أن تمر هذه المجموعة دون أن تحظى بما هي جديرة به من اهتمام.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *