-1- بجانبه التصقت .. وكانت الريح تصفق بالنافذة فازدادت اقتراباً . النار أمامه بدأت مسيرتها إلى النهاية .. يدها في عمى القطط الصغيرة تبحث عن يده .. وجدتها . احتوتها. بيدها ضغطتها .. جعلت أصابعها تتخلل أصابعه مرات .. ومرات .. عيناها ترحل باحثة عن عينيه. شبه مستلق والسيجارة تومض بين حين وآخر ..
بعيد عنها كل البعد ..قريب منها كل القرب .. عيناها في صمت ناطق تقول لعينيه: – أحبك . يدها تعصر بيده .. تردف قائلة : فما الذي يقلقك ؟ يمتص سيجارته : خائف .. يأتيه السؤال وجلاً مرتبكاً : من ماذا ؟ينتشر الصمت فلا جواب .. تسحب سيجارته من بين أصابعه .. تضعها أمامها بشكل يتيح لكليهما رؤية احتراقها .. عيناه بدهشة : أتعنين أننا نشبه هذه اللفافة ؟ تنهيدة صادقة تهزها : نعم . الفارق بيننا وبينها أنها لا تدرك معنى احتراقها.. أما نحن فنعرف ذلك . وهذا ما يجعلنا نفكر في النهاية .. ونظل نفكر .. ونفكر .. وفجأة تنتهي الحياة . في باطن كفها زرع قبلة .. والتقت العيون حيث النار في المدفأة أصبحت رمادا ً.
-2-
(( نظراً لسوء الأحوال الجوية . نرجو ربط الأحزمة والامتناع عن التدخين)). انبثق ثوت المضيف يشوبه الخوف .. امتدت الأيدي في عجلة إلى الأحزمة .. الأصابع تضغط في عصبية بالسجائر المشتعلة لتطفئها . ويشتعل الخوف في الوجوه .. الطائرة تغير من هدوئها السابق . اللون الأصفر أخذ مساحة أكبر في الوجوه التي لا تعرف من تسأل . المضيف يعبر الممر في عجلة .. يأخذ شيئاً ما ..العيون تلاحقه .. عجوز نحيل الجسم يشدد قبضته على ذراعي مقعده .. يزم شفتيه مع كل هبوط وصعود.. هناك في نهاية الطائرة حيث الركاب قلة طفل صغير افترش الأرض يقف . يبتسم . لا يعرف ماذا حدث سوى أن هذه الأرجوحة الكبيرة تزداد صعودا ًوهبوطاً . في يده كيس كبير من النايلون يحاول نفخه بين حين وآخر . الأم في مقعدها البعيد تشير له .. النساء كثيرات وهو لا يميز . اللون الأسود طابع واحد .. فكيف ؟ الاعصاب تصل إلى مرحلة الانفجار .. القلق يغزو النفوس . المضيف يلتزم بمقده مغمض العينين والطفل الصغير يقترب من وسط الطائرة .. لا أحد يلحظه العيون جميعها متعلقة بالنورد تريده أن ينطفئ . ولأول مرة يرفض الانسان النور . الموت . الحياة .. عربة الاسعاف .. صفحات الجرائد . فجأة ينفجر صوت عنيف يرجع الأعصاب الموشكة على الانفلات . صراخ النساء والرجال يرتفع .. أحدهم يحاول فتح باب الطورائ . يصل إليه المضيف قبل ذلك .. ماذا حدث ؟ لا شيء .. الطفل الصغير يضحك .. لقد انفجر كيس النايلون .. -3-
تهيأ للقائها .. كانت المرة الأولى التي سيراها فيها .. يعرفها تمام المعرفة .. روحاً. إحساساً .. تنساب نبرات صوتها في أذنه كأن كل نبرة ذات تفرد. في عصرنا هذا مفهوم معكوس لكنه صائب واقع .. فالمعرفة كحادث طبيعي تبدأ بالرؤية وتنتهي بالاقتناع سلباً أو إيجاباً لكننا لا نملك الا أن نسمع . وهذه تجربة لذيذة للأذكياء . الباحثين عن البذرة وليس عن السنبلة .. للمدركين مدلول السحابة الذي لا يمكن أن يوازيه انبهارهم بالسيل . كان في داخله يرسم صورة ليست مغرقة في الخيال .. باهرة لكنها مقنعة . أقبلت .. جلست لم تتكلم .. ارتبك . افتعل أكثر من حركة لتغطية اضطرابه .. أين الأحاديث ؟ أين المناقشات ؟ أين اللسان الطويل ؟ بحث عنه وكأنه قد ابتلعه. عيناها منكسة فوق الأرض تتابع نقشا ًرائعاً فوق فراش الغرفة رفعت عينيها محملة بالثقة .. انفرجت شفتاها بكل الحب المخزون في داخلها وقالت : الشيء الجميل أيها الحبيب ليس في اعجابك للوهلة الأولى .. هذا انبهار يزول بعد التروي .. الجمال عبودية لا تتم الا بالترويض .. عبودية تصبح حياة .. وحياة تكره العتق. وأنا أحبك حراً يا حبيبي ..
-4-
… بائع العرقسوس العجوزلا زالت أقدامه تلطم ظهر الشارع لكن لا جديد .. سوى الجوع ولا من شار يسير في الشارع بلا هدف فالباحثون لا يحددون الزمان ولا المكان وعليه أن يزرع هذا الشارع وذلك. يعرف تمام المعرفة أن الطريق سيصيبه الملل … اليأس لن يتطرق إلى صاجاته التي لا تكف عن الأنين الصاخب. في طرف الشارع .. يقبع بائع عرققوس أخر فقد القدرة على السير وقنع من كل رحلته الطويلة التي يسقي فيها الناس عصيراً حلواً بالصاجات . هذه المرة ليست للنداء.. بل للتنبيه على وجوده .. على من بقي في قرارة نفسه ارثاً من رحمة .. ينفخه .. ولو بكلمة طيبة . انتفض لهذا المصير .. قرع بوقة صاجاته النحاسية وكأنه يطرد هذه النهاية السوداء التي تلاحقه .. يشاهد هذا المصير يومياً .. يرافق ذلك فكرة القتل .. نعم الموت . والموت والحياة في هذه المرة . فليطرد هذا الوهم .. وليتجه إلى شارع آخر . الرحلة هي هي . لا تغيير ولا تبديل .. الناس في السوق يملكون الوقت . أما الأن فها هو ينوء بحمله الثقيل ؟ كلا .. الصاجات ستكف عن الصراخ .. الوجود سينتهي في لحظة . فلماذا نستعجلها ؟ قالها ومضى يصيح : سكر يا عرقوس .
0 تعليق