الخبز والصمت

28 أكتوبر، 2011 | الخبز والصمت | 0 تعليقات

ومر ليل آخر وهو يفكر ملياً فيما قاله له والده بالأمس بعد تلك المقدمة الطويلة عن الموت والحياة .. وصل فيها إلى النهاية .. إلى ما كان يجب أن يقوله في لحظة من الزمان .. {يجب أن تتزوج ..} . ابتسم في داخله استهزاء وسخرية .. حرص في الوقت نفسه أن يكون وجهه مرآة مختلفة عما يجيش في أعماقه ويعتمل في صدره . أليس لك سوى الصمت

هو في كل الحالات التراجع الوحيد والهزيمة الفريدة التي يدركها الجميع لكنها لا تحسب هزيمة .. ولا تراجع . الصمت .. الصمت ربما يكون في قليل من الأحيان منطلقاً لصرخة متورمة .. وهذا شيء نادر . جس بيده ذلك الجرح القديم فوق أصابع يده اليمنى .. تمنعها من الحركة أو الدفاع أو حتى الاعتراض .. أبسط حقوق الانسان .. ويقال والله سبحانه وتعالى العالم بالحقيقة: أن أهل قريته ورثوا هذا المرض الغريب .. صواب أن أهل قريته تنتشر فيهم الأمراض بأنواع مختلفة .. جسدية كانت أو نفسيه .. تتعدد .. تختلف أما هذا المرض فقد انتشر أشبه ما يكون بصفة وراثية يتناقلها الأبناء عن الأباء .. تحسس لسانه .. نظر إلى وجهه في المرآة .. وفطن إلى أن الأمراض ان لم يرثها فإنها لا بد وأن تنتقل بالمجاورة . نبت الصمت .. غابة وحشية .. شق صوته الموج لأبيه بوضوح تام .. ولأول مرة – السكون صوت هادئ ينم عن الثقة والارتياح في اختيار القرار . –    قال : لا .. أن تقول ((لا)) فأنت تمارس أدنى جرحة من الحرية .. خرج دون أن يعرف ماذا ترك قوله من آثر .. لعله أحس بمعايشته المزمنة .. ماذا يمكن أن يحدث وهو العاق الأول في عائلته .. خرج بلا هدف محدد سوى أن الخروج هدف في حد ذاته .. نشوة لم يعهدها تنتشر فيه .. شعر بالامتلاك .. سمع صوت الساقية وأدرك أن ما كان يسمعه من حزن صادر منها انما هو انعكاس لحالته النفسية .. اللون .. الصوت .. الحركة في الخارج ليست جميعها سوى صدى حقيقي لما نحسه هنا في أعماقنا… وكان الليل .. بحيرة فحمية الضفاف .. وكان الليل .. طويلاً كطريق مسافر بلا وجهة .. استلقى على فراشه .. يتابع بأنظاره السقف الخشبي بأعواده المترامية حيث غلب عليها اللون الأسود القادم من تنور أنهكته النار المشتعلة دائماً لكل عابر سبيل .. الدفء.. الخبز .. الفراش لكل ضيف يطرق الباب .. ولو مات سكان المنزل برداً .. وجوعاً .. أيتزوج ؟ ماذا يمكن أن يحدث ؟ أن يتغير ؟ أن يتجدد ؟ أيضيف إلى وجوده كارتباط مزعج ارتباطاً آخر .. مانوعيته ؟ ما مدى استمراره . أين السلب والإيجاب .. وقال صديق عاش لنفسه : لا تتزوج .. فستفقد حريتك . حينها ضحكا بصوت عال .. ضحكا بألم شديد .. وعرفا أنهما اكتشفا جرحاً قد تعاهدا على نسيانه .. فصمتا ايماناً بالحقيقة . غادر عيونه النوم .. بعد ساعة أنهكته تفكيراً وخواطر .. أزعجته .. فترك المكان إلى منزل صغير في طرف المدينة .. فتح الباب دون أن يطرقه .. دخل إلى الغرف جميعاً .. واحدة .. واحدة .. يعرف ألوانها جميعاً .. وسكانها .. أحساساتهم .. حركتهم .. سكناتهم .. وبدأت الحمى التي يشعر بها بمجرد لقائه بسكان المنزل .. حمى يعرفها مسبقاً .. يحسب لوقوعها الدقائق والثواني .. الحمى وصلت إلى درجة عالية من التوتر .. والدفء والنشوة ثم .. انحدرت سهلاً واسعاً .. أخضر يشقه نهر طويل .. يصطدم فجأة بماء البحر .. حيث الملح والأمواج والشموس … جفف حلقه بما ابتلعه من بقايا لعاب .. وأحس بالدوار .. خرج . لم يلتفت وراءه . وصل إلى منزله مع بزوغ السمس .. رائحة البن .. والخبز .. والصمت تنتشر في المكان.. العائلة بكاملها تفترش الأرض .. عيونهم ترتفع إلى وجهه .. لتقفل راجعة إلى الأرض مرة أخرى . الكل داخله يعجب لهذا الاعتراض الوحيد الذي مارسه .. الكل مسرور .. كل منهم بوده أن يصل الشاطيء الذي وصل إليه .. إلى النتيجة دون ما تحمله كلمته العجيبة .. ((لا)) من دهشة والم وعصيان. {((لا)) أتقولها ؟ وبكل وقاحة أيها الكلب؟} الأم تتحرك في مكانها .. تتأهب للحديث .. منطلقة من وجودها كأم .. من وجودها كامرأة تقول شيئاً .. أي شيء . يحدجها الأب بنظرة تتحرك إلى صرخة في وجهها المليء بعلامات الاستفهام والضعف والتراج الحزين . –    أنت من بينهم جميعاً .. ليس لك الحق في الحديث .. الحديث لي أولاً وأخيراً.. سقط الحزن في قاع القلوب .. وفي القنديل ذبالة عطشى .. وخرج ثعبان من جحره بعد أن غير جلده .

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *