الجوع كافر

28 أكتوبر، 2011 | الخبز والصمت | 0 تعليقات

انحنى .. يده القذرة السوداء .. الأظافر الطويلة تنقر .. ترفع بقايا الطعام . بقامته منتصباً .. العين اليمنى محروقة .. آثار الحريق ميزها بلمعان واضح .. العين الأخرى تحمل الكره والجوع والهلع .. الوجه خريطة عجيبة .. تضاريس جوع .. أخاديد ألم .. الشعر ينبت طويلاً غير منظم. انحنى .. معطفه الكبير صدقة أهل الخير يبدو قصيراً .. طويل هو جذع نخلة بلا تمر .. بلا أوراق .. صامد

للريخ متشبث بالبقاء .. منزرع في أرض صخرية .. تحت المعطف يبدو ثوب أبيض .. الليلة باردة .. القدمان تنتعلان حذاء أسود اللون .. لامعاً .. لا يتناسب مع هيئته الرثة.الليلة تزداد حلكة .. وهو يزداد بحثاً عن الحياة .. الليلة تنخفض فيها درجة الحرارة إلى حد لا يطاق وينخفض .. ينخفض أملاً في لقمة .. لا شيء سوى عواء المعدة .. بعينه الوحيدة يحول .. يمسح الجدران وأكوام القمامة.. بقايا الطعام جميعها انتهت .. لقد سبقته الكلاب هذه الليلة حتى الكلاب والقطط تنكرت له . أين هي ؟ ألم يعتد في كثير من الليالي بنباحها وعوائها .. أين هي ؟ تبحث عن الدفء استهلك الأماني .. حلم صعب التحقيق أن يكون كلباً أو قطاً .. أصبحت بضاعة كاسدة تلك هي الأماني .. الجوع يعصر معدته .. الصوت الصادر منها يرافق تنفسه جيئة وذهابا. الشارع الطويل في نهايته شبح قادم .. يتهادى خطوة خطوة .. بحركة عفوية خلع الحذاء اللامع النظيف .. خبأه تحت ابطه .. كان بارزاً وضعه مرة ثانية داخل المعطف . برودة الحذاء تصل إلى جسمه المتعب . سرقة !! نعم سرقة .. بل الصواب . أخذه أحس في تلك اللحظة بشعور الملكية لكل تلك الأحذية وأن ليس عليه سوى الاختيار لم يحس بالارتباك .. سجد المصلون .. كانت الأحذية كثيرة .. ضم أصابع قدميه انتفخت من السير في الوحول والمياه .. وتلك السيارات اللعينة المسرعة دائماً التي لا يحلو لها إلا اغراقه بمياه الشوارع بعد الأمطار حيث الماء يصل إلى كل شيء يرويه .. يمنحه الحياة . عداه. كانت رغبة يمارسها لأول مرة .. رغبة الاختيار .. رغبة الشراء . وبلا نقود وقف ودلف إلى داخل المسجد .. الظهور متراصة .. الهمهمات تأخذ في الهدوء شيئاً فشيئا . عينه تجول أنحاء المسجد .. الامام . جميع المصلين . ها هي فرصتك .. خذ ما تريد . أحذية كثيرة .. الوقت .. لديك المتسع . لا تتلكأ .. أمور كثيرة لا يجب التريث عندها .. الأقدام أروع قرار يمارسه الانسان. هذا الحذاء .. ينحني .. يمسك به .. يرفعه .. {السلام علكيم ورحمة الله . السلام علكيم ورحمة الله} التفت إليه المصلون .. ارتبك .. صاحب الحذاء .. {السارق !!} الأكف تتهاوى عليه .. عينه الوحيدة تحمر {سارق الأحذية} .. الصور تتوالى ملتصقة في الأكف .. المياه .. ليالي الشتاء الباردة .. قدمه المتشققة .. يضم الحذاء .. يتشبث بالدفء المنتظر اصرار عجيب .. وجه مهيب .. يلمح في وجهه أملاً .. يحس منه انساً . توقف الناس عن ضربه .. يقترب منه { أتسرق وأنت في رحاب الله ؟} يبصق في وجهه.. يصفعه .. يدفعه خارج المسجد . والحذاء اللامع .. طفل يخشى عليه السقوط .. شيء ثمين يتحاشى ألا يفقده .. مسح وجهه بطرف كمه .. افترش الأرض .. المعطف الكبير ينحسر عن ساقيه .. يرفع قدمه .. يلبس الحذاء .. ضيق بعض الشيء .. عسى أن يدفئه. شبح الرجل لا زال يتهادى خطوة .. خطوة .. يسير في خفية .. لم يلمحه الوقت متأخر .. يذهب ويجيء .. وهذا بعينه الوحيدة التي تظهر من زاوية مظلمة عدسة كاشفة تعرف كل شيء .. تركزت فيها قوة هائلة لأنها أصبحت عوضاً عن فم أغلق إلى الأبد ولأنها كانت بديلاً عن أذن فارغة يصفر فيها الهواء . هز رأسه .. عينه الوحيدة عرفت كل شيء .. منزل كبير .. يعرفه طرد من أمامه أكثر من مرة .. الباب يفتح .. تطل منه امرأة تحمل جسداً تبدو عليه آثار الري والشبع.. وبه جوع وحنين إلى شيء خاطئ ويتسلل الرجل .. الباب يظل موارباً .. تنطفئ الأنوار .. بهدوء تام ينسل داخلاً بعد أو وضع حذاءه بين أكوام القمامة .. الرائحة تجذبه .. رائحة الطعام . رائحة العطر تملأ البيت .. يجد الخبز .. يأكل بشراهة .. العرق يتصبب منه الشبع يخنقه .. تقطر من عينه دمعة لم يعرف سببها .. مسحها . فليخرج .. من هنا .. العين الوحيدة تلمع ضوءاً خافتا ً.. يفكر في حذائه .. خبأه هل سيسرقه أحد ؟ لا . لا يمكن لأحد يعرف هذه الأماكن سوى الكلاب والجياع . يفتح باب الغرفة بهدوء .. عبر نافذتها يلمح منظر شجرة توت تهتز بعنف .. تتساقط أوراقها .. الريح تدخل في الأغصان .. الشجرة تتمرد .. تتمايل .. وفجأة تتوقف ولا شيء سوى العين الوحيدة تنظر في دهشة . المرأة تصرخ لكنه لا يسمع .. حتى بني آدم تشبه الكلاب .. هز رأسه .. الكلاب لا تعمل في الظلام .. ولا تختبئ .. لابد أن هناك خطأ ف المفهوم يحك رأسه .. عرفت .. هو يبحث عن شيء يفقده . لا الدفء ولا الشبع ولا الراحة فقد وصل إلى حد الاكتفاء .. وأنا أبحث عن هذا الفارق بيني وبينهم أنهم يخونون بعضهم بشكل رسمي .. أنا سرقت الدفء وسرقت الشبع . كلهم خائنون لأنهم أكلوا لقمتي . ضرب الزجاج بقبضة يده .. المرأة لا تزال تصرخ وهو صامت .. الدم ينفجر من يده .. الرجل يلوذ بالهرب .. هي ترفع صوتها لا يرى فمها المفتوح .. يتقدم إليها في بطء .. الحزن الذي اختزنه سنين عديدة يدفعه .. الدفء .. الحنان .. الحب .. الشبع .. الخيانة .. يمد ذراعيه يحاول خنقها .. تهرب منه .. الناس تصل .. أحدهم يمسك بعنقه .. عينه الوحيدة تجحظ . لسانه يخرج .. ينتفض .. يسقط على الأرض .. شجاع آخر يهوي على رأسه بقطعة من حديد. ينتهي التحقيق .. يحمل بعيداً ..

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *