الزمن والشمس

28 أكتوبر، 2011 | الخبز والصمت | 0 تعليقات

الذباب فوق الجثة .. الشمس تزيد من صهد الحرارة فوق أرضية الشارع لتنعكس على الوجوه الصامتة المتألمة . صوت ينبثق من صفوف الجمع المتزاحم يقطر رهبة ورغبة : من قتله ؟ الوجوه تتفحص بعضها في دهشة فالكل متهم .. ومات السؤال بموت الاجابة.. العيون ترسم الدهية وهي تحقق النظر في طفل صغير انسل من بين الأقدام واقترب في هدوء من الجثة المطروحة

فوق الطريق العام تحت ضوء الشمس. قالت امرأة متحجبة وصوتها ممتلئ بالدمع والنحيب: ربما كان الرجل والده !وصل الطفل .. انحنى .. بيده الصغيرة .. بكفه القصيرة البيضاء .. أخذ يبعد الذباب عن وجه الرجل الميت. –    وسقط الضوء في زمن مجهول لكنه مستمر على وجه طفل يبكي ضربه طفل آخر وقال الأب .. لاتبك. مرة أخرى أقتله ! .. وصفعه . فتوقف الطفل عن البكاء و ((ركب المرء للقناة سناناً )) تشق الصفوف امرأة عجلى .. تخطف الطفل غير عابئة بعباءتها المنزلقة التي تكاد تسقط من فوق جسدها . تصرخ بصوت هلع ((ولدي!!)). وبوجه غيمة بيضاء تنزرع فوق وجه الطفل علامات الاستفهام .. يصرخ الطفل محاولاً الافلات من قبضة الأم المتشبثة : .. ولكن الذباب سوف يأكل وجهه .. سوف يجلب له المرض .. ربما يموت .. وينقل العدوى للوجوه المتزاحمة .. لماذا لا يحاولون ايقاظه قبل أن يأكله الذباب .. أين أمه ؟ تغيب المرأة حاملة الطفل .. تسري الهمهمة مختلفة باختلاف الأشخاص وتعاود الوجوه المتزاحمة النظر إلى الجثة. يعود الذباب من جديد .. صوت عربة الاسعاف يخمد الهمسات وتشرق الوجوه .. تتباعد لتترك طريقاً للعربة .. تقف .. تحمل الجثة .. الوجوه الروتينية تمارس عملها .. ساعة كاملة والاجراءات النظامية تأخذ طريقها عبر أسلاك الهاتف وصرير الأقلام .. الجثة تحت غطاء أبيض .. كتب اسم صاحب الجثة .. وعدة امضاءات فوق ورقة رسمية. –    انتحر بالتأكيد .. قالها .. شاب نحيف يحمل في يده مجموعة من الكتب والمجلات. –    انتهى أجله .. قالها رجل يخفي انفعاله وراء حبات المسبحة في يده . مات من الجوع والبرد .. قالها شحاذ عابر . –    أليس له ورثة ؟ .. قالتها امرأة حبلى بين دموعها . –    وما أدراك أنه انتحر ؟؟ ومم ؟ .. الانتحار فكرة سقيمة تافهة .. الانتحار هرب من المواجهة انه الجب الحقيقي. سقط الضوء على وجه حزين لامرأة تحمل في يدها رضيعا ًيبكي من الجوع. الحياة أيها الصديق لا تحتمل الانتحار .. فكما قلت لك أنه انهزام .. لا تحدثني عن الكاتب الفلاني وما قال . أتود أن تسهب في الحديث عن الحياة وأنها بمطالبها التي فاقت قدرة الانسان على المتابعة جعلته في حالة من فقدان التوازن النفسي والجسدي فآلت به إلى فكرة الانتحار كحل نهائي لمجموعة الحلول المطروحة .. لا . لا . ليس مبرراً منطقياً لأن الفقراء يملاون الشوارع والمحرومون لازالوا بنفس الدرجة بل أنهم مع هذا الانبهار الذي نراه انما زاد حرمانهم عمقاً والهوة زادت اتساعاً . افترق الناس وسار الاثنان باتجاه واحد . الشاب بكتبه والرجل المسن بتجربته وحزنه يتحدثان عن رجل ميت كمقياس جيد للبقية التي لا تزال تمارس الحياة . وعاد الشاب إلى سؤاله الملح : اذن هل مات مقتولا ً؟ هل مات ميتة طبيعية؟. نظر الرجل المسن إليه وقسوة محببة تطل من خطوط جبينه : لماذا تعتبر أن في الموت جريمة .. الموت نهاية وماذا يمكن للتحقيق أن يعطى المجني عليه من حقوق . الجريمة الحقيقية هي أن يستمر الموت في الظلام .. الجريمة أن تموت مرتين كل يوم . الرجل مات .. وكفى . –    مات بكل هذه البساطة .. ماذا يمكن أن يترك موته في نفسي ونفسك أنا وأنت نمثل حلماً للآخرين وجودي وجودك ليس قضية فردية تبدأ بك وتنتهي بك أو العكس .. لا .. لا .. أرفض هذه الفكرة . الوجود بالنسبة لنا جميعاً هو كل . ولابد أن أتنفس من هذا المنطق وأبكي وأضحك على اعتبار أني لست وحدي .. نحن حقلة متصلة . النهاية فيها شيء حتمي ولكن لابد أن تكون طبيعية . لا أن تكون نتيجة لتكافؤ غير عادل في اللقمة والبسمة. وصلا إلى مفترق الطريق . عاد الرجل المسن إلى الخلف

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *