شمس الموتى

28 أكتوبر، 2011 | الخبز والصمت | 0 تعليقات

مرقت أمام ناظريه سبع حمائم بيضاء متجهة صوب الأفق . والشمس تصبغ بلونها القاني أطراف السحب المتناثرة .. ذكره غروب الشمس بحديثه رفيق من رفقاء قريته : –    أتدرك ماذا يسمي أهل القرية الشمس في لحظتها هذه ؟ هززت رأسي يمنيناً .. هززته يسارا ًثم توقفت عن الحركة حين أدركت أنه عرف جهلي. –    انهم يسمونها شمس الموتى فهم يدعون أنها

حين تغيب عن الأحياء انما تشرق بهذا اللون الحزين على الموتى .. هناك في الجانب الآخر .. ابتسمت بادئ الأمر. ضحكت قهقهت. وتوقفت فجأة لتنحسر علامات الحبور والبهجة التي ظنها صاحبي حقيقة .قلت له: وأنا الأحق الحمائم السبع الأخذة في التلاشي مكونة سبع نقاط سوداء في الأفق – وعندما تشرق مرة ثانية ما الدي يمكن أن يتبدل في الموتى ؟ ماذا سيحدث لهم في قبورهم الاختيارية ؟ انهم يشبهون جملاً فقئت عيناه ليظل يجتر كل شيء لا يملك الاختيار ولا يملك الرفض فهو في منطقة اللاموقف . وفي النهاية سوف يجتر أمعاءه عندما تذروه الرياح فيتحول إلى واحد من هذه الكثبان. –    أنا لا أفهم شيئاً  قالها صاحبي .. بحث في جيب معطفه الأخضر الطويل عن سيجارة .. أشعلها ونفث ما تكون من حزن في صدره على مدى الأيام وأعقبها بتنهيدة حرة .. نظر حوله كمن يوجس خيفة ثم همس : –     أيمكن لي أن أقول لك شيئاً ؟ كنت في تلك اللحظة أرقب الشمس تقوص في الرمل قليلاً .. قليلاً .. ثم لم تلبث أن غابت تماماً فوق شجرة وحيدة كانت العصافير المتجمعة تنقش بزقزقتها رداء الصمت. –    الحديث موجه لك يا صديقي العزيز قلت له : قلبي معك . تحدث . إلا أنني لم التفت اليه فلم أسمع له صوتاً وانسحب غاضباً .. لحقت به متجهاً إلى القرية اعتذرت له .. قال دون موارية. –    يخامرني شعور قوي بأنها مقدمة على خيانتي . –    الخيانة فعل .. الخيانة فعل وليست شعوراً أيها الصديق . –    أدرك ذلك تماماً .. أدرك أنه فعل منا سوف يقع .. الا أنه شعور من جانبي يحرقني كل يوم .. يضغط على أعصابي .. نظرت اليه مرة أخرى كررت له الجملة ذاتها .. الخيانة فعل وليست شعوراً .. ضرب بمقدمة حذائه الأرض وكأنه يحتج فانتشر الغبار .. وصاح : –    هذه مصيبتي بك تجعل مني غبياً يعاد له الحديث وتكرر العبارات وأ،ت . أنت تضع نفسك موقع تعرف منه الأمور . تعالجها .. تستنتج وتحلل .. وأنا يعاد لي الحديث وبالرغم من ذلك أسألك حين يقدم انسان ما على خيانة الوطن .. والاقدام هنا تطور من التفكير وهو  ما تسميه أنت بالشعور .. ألا يستحق على ذلك العقاب والنفي ولن نستطيع الأن أن نوقل أن حالة حب المرأة وحالة حب الوطن مختلفان . تكلم . لماذا تهرب إلى الصمت؟ . بنفس الهدوء : الخيانة فعل وليست شعوراً .. وأنت أيها الرفيق العزيز قد أدركت ماذا أود أن أقوله لك من المرة الأولى إلا أن الخوف القابع في نفسك .. الخوف المتوارث داخلك يمنعك من المواجهة لتخلق هذا التبرير وأنا معك لن أفصل حب الوطن عن حب  المرأة .. – بتحفظ – الا انني من حيث المبدأ ولنصل في النقاش إلى نقطة التقاء أحبذ هذا الخلط في الحب لا بين أن الخيانة فعل لا يقع من جانب المرأة – الوطن بل من واجبنا نحن .. خوفنا على الوطن – المرأة من أن يفلت من أيدينا هو بدء الخيانة .. هو ضياع الوطن – المرأة من بين أصابعنا في البدء نغمض أعيننا عن الأخطاء .. تتراكم .. تكبر .. تصبع جبالاً من الصعب ازالتها .. نتراجع بعد ذلك ونبني قبراً في السفح ثم نذرف الدموع حسرة على ضياع المرأة – الوطن . أعرفت ماذا أقصد؟ –     عرفت أم لم أعرف – احتد صوته – لكنني سوف أتزوجها أضمها إلى أن نصبح شيئاً واحد . أيمكنني أن أتغاضى عن ممارسات سمعت بها مسبقاً .. لا .. لا سوف أحدثها بما أحس ولها أن تختار . وصلت وهو إلى القرية . وكانت الأغنام في رحلة العودة قطيع اثر قطيع الظلام محيط بكل شيء لا من أضواء تتثاءب بين حين وآخر من كوى صغيرة في المنازل الطينية المتفرقة . شق صوت المؤذن أصواتاً مختلطة تصدر عن الأغنام والنساء والأطفال والضفادع معلناً انتهاء النهار. ودخلت المسجد . لازمني حتى في الصلاة .. كما ساهماً .. قرأ الامام سورة الناس {الوسواس الخناس} السلام عليكم ورحمة الله . سرت الهمهمة – انطفأ بفعل الريح القادمة قنديل كان يضيء المسجد في شيء من الرهبة لتتطاول الظلام فوق الجدران . انبثق صوت لم يعرفه صاحبه : فليبق كبار الجماعة . زم صديقه شفتيه .. جمع قبضته .. استند على كتفي ونهض .. تبعته كان ثائراً كعادته حين يسمع هذه الاسطوانة المملة {فليبق كبار الجماعة} لمحت الغضب والاستياء عليه .. قال : أمنيتي الوحيدة أن أعرف ماذا يدور في هذا الاجتماع ماذا يقولون ؟ كيف يتناقشون ؟ من الشجاع منهم ؟ من الجبان ؟ أريد أكتشف أوراقهم مرة واحدة فقط . –    لا بد وأنهم يناقشون أمور القرية فأنت تعرف أنه في خلال الأسبوع جاء مجموعة من الأغراب الفقراء يطلبون معونة تعيدهم إلى ديارهم  أو ربما يناقشون معونتك في الزواج ؟ –    صاح في الم . ان آخر من يستحق المعونة هو أنا يا سيدي العزيز .. هذا بالطبع في نظرهم طالما انني آكل وأشرب ولا أخرج عارياً في الأسواق فأنا غني والغني وجه الله . لكن ماذا تأكل غداً . أتوقع مرضا ً.. هذه أسرار الغيب وكما قل محدث القرية : لكل حادث حديث عد بي اليها .. عمق ألمي دع سكينك تعبث بروحي . ابتسمت . انك تثبت لي بين وقت وآخر عشقك الكبير أنت تريدها لك وحدك متناسياً كل ماضيها .. الماضي الذي لم تعرفك فيه . ماضي ملئ بالصداقة والعداء بالحب والكراهية. وجئت أنت .. جديد في سمائها أفيمكن أن يكون مجيئك سحراً يطمس الماضي.. يعتقها من جميع انفعالاتها السابقة .. لا .. أنت تهزي يا صديقي أنت تبحث عن طفلة تعشقها .. لا امرأة تجبك . كان يعرف في القرية بأنه يتقن القرع على الطبول يأتون إليه من قرى بعيدة . يشاركهم في أفراحهم يرقصون يقرع الطبل وهم يضحكون .. يغيب مع هذا الدوي الهائل . يلاحق بنظراته الزائغة كفيه وهما يتناوبان في القرع. والوجوه. الأقدام . العيون . تتحد على الايقاع تكون في نظره لوحة من الالفة بين الكبير والصغير وهي الفة مؤقتة فحين يموت الايقاع تعود الوجوه لترتدي أقنعة النهار .. أقنعة الزيف . وعند الفجر يعود إلى القرية يحمل معه الطبل .. ويغني بصوت حزين. وحيداً ظل في القرية الا اننا نحبه .. كان صادقاً .. يأنس إلي يحدثني عن تجواله في القرى . –    متشابهان . ربما اختلفت في أشكالها منازلها . الا أنها تظل تبحث عن ماء نظيف . عن لقمة يأخذا المزارعون من أفواه الطيور الجائعة وحين يسقط المنزل لا يقوم مرة أخرى . والمدينة وحش يأكل الشباب ولم يبق في القرى سوى النساء والعجائز . –    كان يحدثني عن حبه الوحيد يخاف عليها ويخشى أن يبوح لها بما يحس فيفقدها . يقول الشعر . الا أن جمهوره العريض لا يعجبهم شعره فهو شعر حزين. نصحته أن يتزوجها .. فعل ذلك. مر شهران لم أرها فيهما وحين رأيتها فوق البئر تملأ قربتها . –    كيف صاحبنا . التفتت إلي في نظرة فاجرة أشارت إلى القربة قائلة : –    حملني أياها . وضعتها فوق ظهرها . سارت مسافة قصيرة التفتت إلي من فوق كتفها : –    احذر .. أياك والوقوع في البئر .. انها عميقة جداً وسقط نظري إلى تحت .. وشعرت بالرهبة . حدث كبير .. فقد وصل إلى القرية فريق كبير يخطط لبنائها من جديد واجتمع كبار الجماعة بعد صلاة الجمعة ظل الفريق عشرة أيام بلياليها في مخيم مضاء بالكهرباء أهل القرية يرسلون لهم كل يوم عشر ذبائح وحين انتهت المهمة اتفق أهل القرية على تقديم علبة من عسل أبيض لكل واحد منهم .. وودعناهم حملنا لهم خيامهم وذلك (( الوحش)) الذي يهدر في الليل فيحيل المخيم إلى بقعة من ضوء . قال لي أحدهم .. ان قريتهم لذيذة ؟!. قذف الطفل الصغير مافي جوفه وصاحت الأم انها تلك الفاكهة الملعونة أما أنا فصعدت إلى قمة الجبل . مرت على هذه الحادثة ثلاث سنوات .. تغيرت القرية قليلاً .. سقطت ثلاثة منازل بعد أن هاجر أهلها إلى المدينة المجاورة . صبيحة يوم بارد جاء أحدهم خبر يحمله في صحيفة سيارة وكانت تحيط بالخبر مجموعة من الاعلانات وخبر صغير عن بيع مزرعة كبيرة ومنزل فاخر على شاطئ أوربي وكان مضمونه (( انه بعد الدراسة والبحث تقرر نقل القرية إلى مكان صحي وسوف يشكل لذلك فريق جديد يبحث هذا القرار على الطبيعة)) . غادرت القرية وها أنا أعيش بمفردي متجولاً بين المدن المتشوهة لقيت صاحبي .. سألته في القرية عن زوجته التي أحبها وهو يشك فيها . قال : حين عاد الفريق إلى القرية طلقتها !!..

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *